عندما يهز الذَّنَبُ الكلب

10 مارس 2022
تظاهرة في لندن ضد الحرب الروسية في أوكرانيا (getty)
+ الخط -

المتعارف عليه عادة أن يهزّ الكلب ذنبه، تعبيراً عن عاطفة للقاء، أو فرحة بطعام ينتظره، أو إشارة غضب قبيل هجوم الكلب على خصم له.

ولكن المؤلف الأميركي، لاري باينهارت، والذي اشتهر بأنه مؤلف الرواية السياسية والاستقصائية American Hero، أعاد نشر كتابه بهذا العنوان في العام 2004 كرواية، علماً أن الكتاب صدر أصلاً رواية للمؤلف نفسه في العام 1993، وأنتجت فليما سينمائيا بالعنوان نفسه في العام 1997، ومثل فيه النجمان روبرت دي نيرو وداستن هوفمان.

تروي القصة كيف يقنع خبير إعلامي وظيفتَهُ تزيينَ أعمال الحكومة الأميركية أحد المخرجين العاطلين عن العمل بابتكار فيلم عن حرب خيالية في ألبانيا خدمة للرئيس الأميركي الذي يبحث عن ملهاة جديدة بسبب فضيحة قد تطيح فرص إعادة انتخابه لفترة ثانية.
ومن هنا، فإن الكلب لا يهز الذنب، بل يهز الذنبُ (وهو قصة الحرب المفبركة) الكلب.

أي عندما يسرق أمر صغير المشهد من الأحداث الكبرى، فتنعكس الأمور، ويصبح الحدث الأصغر هو المسيطر على الأحداث الأكبر.
وقد فبرك طرفا النزاع في حرب أوكرانيا أشرطةً، أو قاما ببث أشرطة حدثت في أماكن أخرى من العالم، وبثتها على أنها حصلت في أوكرانيا.
ولعل أطرف هذه الأشرطة إعادة بث شريط لمواجهة تبيّن الفتاة الفلسطينية الشقراء عهد التميمي وهي تصفع جنديين إسرائيليين. وقد أعيد بث هذا الشريط على أساس أن عهد التميمي فتاة شقراء من أوكرانيا تصفع جنديين روسيين.

وقد اختلطت المعلومات الخاطئة بالمعلومات المضلّلة ببعض المعلومات الصحيحة، فلم يعد أحد يدري على وجه الدقة حقيقة ما يجري داخل أوكرانيا.
ولكن الواضح أن الأميركان وحلفاءهم يسعون جاهدين إلى تحفيز الأوكرانيين على القتال ضد الروس، ويرسلون إليهم الأسلحة والعتاد والمرتزقة، في وقتٍ تسعى فيه روسيا إلى تجنب ضرب الأماكن المدنية المكتظّة، لأنها لا تريد أن تخسر الرأي العام الأوكراني.

ولذلك صار جزء من الحرب هو "هز الذيل للكلب"، لإيجاد قضايا تسرق الاهتمام العام والدولي عن النوايا الحقيقية لهذه الحرب.
لقد سبق لروسيا أن تدخلت في الخلاف بين جورجيا وأذربيجان في إقليم زاكاتال أوكرغ" (أو Zakatal Okrug أو زاكاتالا). وكذلك تدخل الروس في الحرب التي دارت بين أرمينيا وأذربيجان.

وقد استخدم هذه المعلومات الإعلام الغربي للقول إن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يسعى إلى إعادة إحياء الاتحاد السوفياتي، وأحياناً يقولون عنه إنه القيصر الروسي الذي يسعى إلى إعادة إحياء الإمبراطورية الروسية التي سقطت في عام 1917 بعد الثورة البلشفية - الشيوعية.

وليس خافياً أن الرئيس بوتين وإدارته يريان أن انحياز أوكرانيا للغرب، أو دخولها الاتحاد الأوروبي، أو انتسابها إلى عضوية التحالف في شمال الأطلسي- حلف الناتو (NATO) ستجعل كامل التحالف محاصراً لروسيا في مناطق عدة مثل جمهوريات البلطيق، وبولندا، والآن أوكرانيا. هذا عدا عن ألمانيا (بعد توحد ألمانيا ثانية عام 1990، وتركيا العضو القوي في حلف الناتو).

وتاريخياً، كان البلدان قريبين من بعضهما بعضا، وهنالك جالية روسية تعيش في أوكرانيا، خصوصا في المنطقة الشرقية القريبة من شبه جزيرة القرم.
ولعل من الطريف أن نتذكّر الكاتب ليو تولستوي، كاتب وفيلسوف ديني روسي. من أشهر رواياته الحرب والسلام (1865 - 1869)، الذي تنازل عن ممتلكاته في أوكرانيا للمزارعين، ما دفع أبناءه وزوجته للحجْر عليه كشخص مجنون فاقد الأهلية، وهو الذي جَسّد شخصية نفسه في قصة "آنا كارينينا"، والتي كان أحد أبطالها كونستانتين ليفين، المزارع الذي يعمل في أوكرانيا.
وكذلك، تعتمد روسيا المنتجة للحبوب كثيراً في صناعة الفودكا على القمح المستورد من أوكرانيا. وقس على ذلك. وهنالك بالطبع المفاعلات النووية، خصوصا تشيرنوبل الذي اشتهر عام 1986، عندما حصل تسرّب إشعاعي منه، يقول بعض العلماء إن القاطنين بالقرب منه ما يزالون يعانون من آثاره. ولكن للمفاعل هذا قدرة على تزويد الوقود اللازم لإنتاج أسلحة نووية، وتركه للأوكرانيين سيكون مصدر تهديد لروسيا.
وفي المقابل، يريد الشعب الأوكراني (على الأقل نصفه) أن يكون دولة مستقلة مفتوحة على العالم، وترى أن من حقها السيادي أن تختار الولاء والاصطفاف مع أي ترتيبٍ آخر خارج روسيا. وأن الإدارة الموجودة حاليا، بغض النظر عن تقييم الرأي العام الدولي لقيادتها برئاسة فولوديمير زيلينسكي، هي قيادة ناتجة عن تصويت الشعب الأوكراني بأسلوب ديمقراطي نزيه.

وأنها دولة ذات سيادة، ولا يجوز المساس بتلك السيادة، وأن للوجود الروسي مخاطر عليها، كما ثبت في إعادة الروس امتلاك شبه جزيرة القرم وميناء سيباستيول على البحر الأسود، وفي تدخلها لتجزئة أوكرانيا في إقليمي دونيسك (Donetsk) ولوهانسك (Luhansk)، وفي الهجوم على بناها التحتية والسعي إلى احتلالها.

وفي النهاية الذي حصل، في رأيي، أن الجانب الروسي قد وقع في مصيدة (22)، أو (Catch22)، فلا هو رابح إن التزم بالسلم وعدم التهديد العسكري، ولا هو ناجٍ من تبعات العمل العسكري الذي يقوم به، فهو في الحالتين سيواجه المشكلات الناجمة عن احتلال جزء من أوكرانيا.

لقد غرس الشيطان أوتاده، وفرّق بين الروس والأوكرانيين إلى عشرات السنين، وأن العلاقات الودية بينهما قد تحوّلت إلى عداوة.

يحصل هذا كله، والاقتصاد العالمي يشهد ارتفاعات غير مسبوقة في أسعار المواد الأساسية من نفط خام، وغاز طبيعي، ومعادن، وسلع غذائية. ولا بد أن بعض تجار هذه المواد سيحقّقون أرباحاً طائلة، وسيزداد توزيع الدخل والثروة بين الدول وداخلها سوءاً واتساعاً.

المساهمون