عملاء البنوك ليسوا فئران تجارب

31 مارس 2020
مقر البنك المركزي المصري بالقاهرة (Getty)
+ الخط -

في كل دول العالم، تتخذ البنوك المركزية قراراتها بعد تمهل شديد ودراسة متأنية ومتعمقة، وعقب إجراء دراسات واسعة لتأثيرات القرار على كل الأطراف المتعلقة به: الاقتصاد الكلي، مناخ الاستثمار، المتعاملون مع البنوك، المودع أو المدخر، قطاع الأعمال، أي المستثمر أو رجل الأعمال، معدلات السيولة والنمو والتضخم والبطالة.

وبعدها يصدر البنك المركزي القرار بعد اعتماده من اللجان الفنية، وفي كل الأحوال يجب الحرص الشديد على توافر عنصرَي الثقة والمصداقية في القرارات المتخذة.

أما أن يصدر البنك المركزي قراراً ثم يعدله مرات، فهذا أمر غير محبذ، بل وجديد على صانع السياسة النقدية والقطاع المصرفي، ولا يتسق مع المهام الحساسة التي تقوم بها البنوك المركزية من رقابة على القطاع المصرفي وأسواق الصرف، وحماية أموال المودعين، وإدارة الدين العام، واحتياطيات البلاد الخارجية، وطباعة البنكنوت وغيرها.

أمس الأحد فاجأ البنك المركزي المصري، المتعاملين مع البنوك بقرار يقضي بوضع حد مؤقت يومي لعمليات الإيداع والسحب النقدي بفروع البنوك بواقع 10 آلاف جنيه للأفراد و50 ألف جنيه للشركات، واستثنى من ذلك سحب الشركات ما يلزمها لصرف مستحقات موظفيها.

أما بالنسبة لعمليات الإيداع والسحب النقدي من أجهزة الصراف الآلي فقرر البنك المركزي وضع حد يومي لهذه العمليات بواقع خمسة آلاف جنيه، وربط البنك قراره الأخير بقيام البنوك بتعقيم وتطهير تلك الماكينات بشكل دوري، وبالتالي فإن التكالب على عمليات السحب قد يعرقل عمليات التعقيم التي تتم ضمن الاجراءات الاحترازية لمقاومة فيروس كورونا.

كما ربط البنك المركزي القرار المتعلق بوضع قيود على عمليات السحب النقدي بشكل عام بخطته في المحافظة على صحة المواطن من فيروس كورونا عبر الحد من استخدام العملات الورقية وتشجيع الاقبال على استخدام بطاقات الدفع الإليكتروني.

إلى هنا، وكلام البنك المركزي مقبول ومنطقي خاصة مع حالة الذعر من تفشي فيروس كورونا والتحذير من خطر الزحام، ويمكن أن نصدق البيان الصادر عن البنك بشأن القرار، خاصة وأنه خرج عن مؤسسة اقتصادية ومالية لا تعرف بطبيعتها الخداع واللف والدوران نظرا لحساسية الدور الذي تقوم به، وحرصها الشديد على أموال المودعين.

لكن المتعاملين مع البنوك أصيبوا بصدمة مساء أمس الأحد عندما وجدوا محافظ البنك المركزي، طارق عامر، يقدم سببا آخر لفرض مثل هذه القيود المتعلقة بالحد من سحب النقود وهي أن المصريين سحبوا 30 مليار جنيه (1.9 مليار دولار) من البنوك على مدى الأسابيع الثلاثة الأخيرة، وأن هذه السحوبات تبرر فرض قيود على الأموال.

وقال عامر، حسبما هو منشور: "وجدنا الأفراد يسحبون مبالغ من البنوك وهم في غير احتياج لها، نريد بعض الانضباط، نحن في مجتمع ولازم نفكر في الآخرين، أرجو أن الناس تتفهم أن هذا تنظيم للأمور ولازم يتم".

كلام محافظ البنك المركزي المتعلق بسحب 30 مليار جنيه من البنوك خلال 3 أسابيع يمكن تفسيره بسهولة بأن شريحة من المصريين تدافعوا إلى البنوك خلال الأيام الأخيرة لسحب جزءاً من أموالهم وتخزينها في البيوت على غرار ما حدث من تخزين للسلع، خاصة الغذائية، خوفا من مخاطر تفشي مرض كورونا، كما حدث في الصين وإيطاليا وإيران وغيرها من الدول، وقد يكون بعضهم قد سحب جزءا من ودائعه للمضاربة في الدولار الذي شهد ارتفاعا أمام الجنيه خلال الفترة الماضية، أو لشراء شهادات الادخار مرتفعة العائد التي طرحها كل من البنكين الأهلي المصري ومصر بسعر فائدة 15% سنويا.

هذه أسباب منطقية تبرر زيادة السحب النقدي من قبل عملاء البنوك هذه الأيام، ولا تبرر أخذها ذريعة لفرض قيود على عمليات السحب والإيداع، مرة تحت بند الحفاظ على صحة المصريين، ومرة تحت مبرر وقف كثافة السحب من البنوك.

لم يتوقف الأمر عند التبرير الذي قدمه المحافظ للقيود المفروضة على عمليات السحب والايداع؛ ففي مساء نفس اليوم خرج قرار عن البنك المركزي ينص على تعديل قراره السابق.

فقد نقلت جريدة "الشروق" عن مصادر مصرفية وصفتها بالمطلعة قولها إن البنك المركزي عدل قرار حد الإيداع بداخل الفروع والبالغ 10 آلاف جنيه في اليوم حسب التعليمات الصادرة، وجعل الإيداع مفتوحا بدون حد كما كان قبل القرار الصادر اليوم.

إذاً القرار تم تعديله، والأسباب التي سيقت من قبل البنك المركزي لتبرير القرار تغيرت خلال اليوم الواحد، وهذا الأمر قد يربك المدخرين خاصة وأن العالق في أذهانهم أن الدول تفرض قيوداً على عمليات السحب النقدي عندما تمر بأزمة مالية كبيرة كما جرى في لبنان أخيراً حيث توقفت البلاد عن سداد ديونها الخارجية، وقبلها واجهت البنوك اللبنانية صعوبة في تدبير احتياجات عملائها الدولارية، وكما جرى أيضا في اليونان منتصف العام 2016 عندما تم إعلان تعثر البلاد وتوقفها عن سداد الديون.

عملاء البنوك ليسوا فئران تجارب، والبنوك المركزية تجب عليها دراسة قراراتها جيدا وبشكل متأنٍ قبل إصدارها، فهي مؤسسات وطنية همها الأول الحرص على أموال المدخرين وليس التسبب في إثارة الرعب والقلق بينهم عن طريق إصدار قرارات وتعديلها حسب رد فعل المتعاملين، علما بأن هذا الأمر تكرر عدة مرات في السنوات الأخيرة.

قد يقول البعض: وما العيب في أن يعدل البنك المركزي قراراته الخاطئة أو في ظل ردة الفعل السلبي والعنيف عليها؟

الإجابة بسيطة وهي أن البنوك المركزية ليست مؤسسات حكومية وليست أحزابا سياسية تعدل قراراتها حسب رد فعل الرأي العام عليها، بل مؤسسات تصدر قراراتها بناء على معايير اقتصادية ومصرفية بحتة وسليمة ومتأنية وليس بناء على معايير سياسية واستطلاعات الرأي العام.

المساهمون