الأرقام لا تكذب؛ ففي 3 يوليو/تموز 2013، أي قبل 10 سنوات من اليوم، بلغ سعر صرف الدولار الأميركي نحو 7.05 جنيهات في البنوك المصرية، و7.60 جنيهات في تعاملات السوق الموازية، مقارنة مع 30.95 جنيهاً في البنوك الآن، ومتوسط 38.50 جنيهاً للدولار في السوق غير الرسمية؛ بما يعني فقدان الجنيه أكثر من 80% من قيمته، خلال سنوات وصفها بعض خبراء الاقتصاد بـ"العشرية السوداء". يأتي هذا الحديث بالتزامن مع حلول الذكرى العاشرة لقيادة وزير الدفاع -آنذاك- عبد الفتاح السيسي، إطاحة أول رئيس منتخب في مصر محمد مرسي.
رحلة الديون
أسباب عديدة كانت وراء عملية الانهيارات المتتالية لأسعار العملة المحلية مقابل الدولار، وأبرزها الإنفاق الكبير على مشروعات قومية عملاقة، ما فاقم من عمليات الاقتراض الداخلي والخارجي. وشهدت السنوات العشر الماضية موجة عاتية من الديون والتضخم والغلاء، وانهياراً غير مسبوق في قيمة العملة المحلية، من جراء التوسع في الاقتراض الخارجي لإقامة مشاريع "تجميلية"، لا تعود بالنفع على الاقتصاد أو المواطن؛ ولعل أبرزها مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، الذي قدرت كلفته بنحو 58 مليار دولار.
ووفق بيانات حكومية، ارتفع الدين الخارجي لمصر من نحو 43.2 مليار دولار في يونيو/ حزيران 2013، إلى 165.361 مليار دولار بنهاية مارس/ آذار من العام الحالي، بارتفاع نسبته 282%. وبزيادة مقدارها 2.433 مليار دولار مقارنة بنهاية ديسمبر/ كانون الأول 2022 (162.928 مليار دولار)، و7.56 مليارات دولار على أساس سنوي؛ علماً بأنه يتعين سداد الحكومة ديوناً خارجية مستحقة بنحو 9 مليارات دولار في 2023.
تضحيات وصبر
في خطاب له أول من أمس الجمعة، أشاد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بما سماه "تضحيات وصبر" المصريين على الأزمة الاقتصادية، مذكراً بهجمات المتشددين، وحالة عدم الاستقرار السياسي التي عاشتها البلاد سابقاً. وقال السيسي: "أعتقد أن هذا الجيل، الذي نقل مصر بجهده وصبره، من الفوضى والقلق إلى الاستقرار والأمن، قادر على استكمال تحولها التنموي"، على حد تعبيره.
وتشير تقديرات البنك الدولي إلى ارتفاع نسبة السكان الذين يعانون من الفقر في مصر إلى نحو 60%، من أصل 105 ملايين نسمة. ولم ينج أفراد من الطبقة المتوسطة من شبح الفقر، في ظل أزمة متواصلة بسبب خفض قيمة العملة، والتضخم المتزايد. وكان مراقبون قد عزوا الارتفاع الكبير في نسب الفقر إلى حصاد السياسات الاقتصادية للحكومة، التي لم تضع محدودي الدخل ضمن أولوياته؛ ورضخت لتعليمات مؤسسات التمويل الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد، الخاصة بتحرير الدعم، ورفع أسعار الوقود، وغيره من السلع الأساسية. وأعيد انتخاب السيسي رئيساً في عام 2018 من دون معارضة حقيقية. ومن المرتقب بدء إجراءات الانتخابات الرئاسية الجديدة نهاية العام الجاري، بعد تعديل الدستور ليسمح ببقاء الرئيس الحالي في الحكم حتى عام 2030، وذلك بمنحه حق الترشح لولاية ثالثة قوامها ست سنوات.
اضطراب الأسواق وبداية السقوط
لن يتوقف تهاوي الجنيه المصري عند السعر الحالي، حسب مراقبين، إذ لم تنقض إجازة عيد الأضحى، حتى عادت حالة الاضطراب بالأسواق، مع توقع انخفاض جديد بقيمة الجنيه أمام الدولار والعملات الصعبة. وارتفعت أسعار معظم السلع الأساسية اليومية والفواكه والدخان، بمعدلات تتراوح ما بين 10% إلى 40%. تأتي حالة الاضطراب المستمرة، منذ عام 2016، بقيمة الجنيه، وسط توقعات بتوجه الحكومة إلى إجراء تخفيض هائل جديد في قيمته، مدفوعا بشح العملة الصعبة وتراكم الديون، ووجود شكوك بعدم قدرتها على سداد التزاماتها السيادية، وتأخر الوصول إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، يمنحها استكمال قرض بقيمة 3 مليارات دولار، وشهاد صلاحية تمكنها من العودة إلى أسواق الدين الدولية، للحصول على قروض جديدة.
رصد "العربي الجديد" عودة شراء الذهب من أسواق الصاغة الرئيسية من جهات غير معلومة، بكميات هائلة، دفعت أسعار الذهب إلى الارتفاع، من جديد وسط تراجع أسعار الذهب عالميا، إلى 1919 دولارا للأونصة، لتباع أونصة الذهب عند نفس مستواها المسجل في شهر مايو/ أيار الماضي، عند 1980 للأونصة، بينما تسابق تجار الجملة والتجزئة على رفع أسعار السلع، بدون ضوابط سعرية، وفقا لحالة الندرة، والائتمان، والطلب على كل سلعة.
فقد الجنيه 60% من قيمته مع التعويم الأول عام 2016، حيث تراجع مقابل الدولار من 7.5 إلى 15.6 جنيها عام 2017، ليستقر مدارا بدعم من البنك المركزي، لمدة 4 سنوات، أهدر خلالها نحو 20 مليار دولار من الاحتياطي النقدي، حتى بدأ الجنيه مرحلة انهيار جديدة، في مارس/ آذار 2022، ليتراجع، عبر تعويمين متتاليين، بنسبة 50%، خلال نفس العام، ويفقد 20% من قيمته منذ بداية عام 2023، ليصل إلى 31 جنيها مقابل الدولار، في السوق الرسمية، بينما يرتفع عند حدود 40 جنيها في السوق الموازية، و46 جنيها في سوق التعاملات الآجلة.
ويتوقع محللون أن يتجه البنك المركزي إلى خفض جديد في قيمة الجنيه خلال الربع الأول من العام المالي الحالي 2023-2024، وسط تآكل احتياطات النقد الأجنبي ومواكبة السعر السائد بالسوق السوداء، ومع عدم قدرة الحكومة على خفض الواردات، وتعزيز الصادرات، وسحبها التدفقات الأجنبية لسداد التزامات مطلوبة مسبقا.
محاولات حكومية لوقف النزيف
يدفع الجنيه المتراجع معدلات التضخم إلى الصعود يوميا، لتزيد من العبء على دخول الأسر والشركات وميزانية الدولة التي تمول مشروعاتها عبر الديون المحلية والخارجية، التي أصبحت تلتهم 93% من موارد الموازنة العامة للدولة، إذ تمول 37% من إيراداتها من القروض المحلية والدولية.
يبين خبير التمويل والاستثمار، وائل النحاس، لـ"العربي الجديد" سعي الحكومة إلى تأجيل خفض قيمة الجنيه، خلال الأيام المقبلة، مشيرا إلى التصريحات الرئاسية التي استهدفت تهدئة الأسواق قبل حلول عيد الأضحى، والتي أدت إلى تراجع في قيمة الدولار بنحو جنيهن في السوق الموازية. يرجح النحاس أن تبدأ الحكومة تعويما ضخما للجنيه، نهاية أغسطس/ آب المقبل، مؤكدا أنها تسعى إلى تجميع كميات كبيرة من الدولار، من عوائد المصريين القادمين من الخارج خلال فترة الإجازات الصيفية لشهري يوليو وأغسطس.
وأوضح أن الحكومة ستوظف تلك الأموال في توفير السيولة الدولارية للوزارات والجهات الحكومية التي لديها خطط مشروعات تحتاج إلى العملة الصعبة، لتكون تحت تصرفها، خلال العام المالي الحالي. ويشير إلى سعي الحكومة إلى تنفيذ "دولرة" ضخمة، تضمن لها حرية التصرف والحركة، عندما تبدأ في التعويم الجديد للجنيه، بما يقلل من خسائر الموازنة العامة للدولة، التي ستنتج عن الخفض الكبير المتوقع في قيمة العملة.
أوضح النحاس أن الحكومة تجري مفاوضات نهائية مع صندوق النقد الدولي، بما يسمح لها بتوظيف القسط الثاني من قرض الصندوق، وقرض إضافي بقيمة 1.3 مليار دولار، مبينا أن هذه الحصيلة لن توظف إلا عند تنفيذ التعويم الجديد، حيث ترغب الحكومة في عدم المخاطرة بتنفيذ تعويم وتطبيق سعر الصرف المرن، دون أن يكون لديها احتياطي كاف من العملة الصعبة، تواجه زيادة الطلب المتوقع على العملة. وأشار النحاس إلى أن رفع الأسعار الذي تشهد الأسواق حاليا، يرجع إلى تطبيق الزيادة الجديدة في أسعار الكهرباء، وتوقع الأسواق للتعويم، وعدم وجود معلومات حول سداد الحكومة لالتزامات مالية بقيمة 2.25 مليار دولار، كانت مطلوبة السداد نهاية يونيو الماضي.
يشير خبراء إلى سعى الحكومة إلى شراء الذهب من الأسواق، بهدف زيادة الاحتياطي النقدي من الذهب، واستغلاله في توليد الدولار ببيعه في الأسواق الدولية، وتخفيف الضغط على منافسة شراء الدولار من السوق السوداء، للحد من تسبب زياد الإقبال على الدولار في رفع أسعار السلع بالأسواق. بلغ سعر غرام الذهب عيار 21 الأكثر مبيعا 2260 جنيها وبيع عيار 24 عند 2582، وعيار 18 عند 1937 جنيها.
وأعلن البنك الأهلي أكبر ذراع مالي للحكومة، عن السماح بفتح حساب دولار بحد أدنى 100 دولار اعتبارا من أمس، ببطاقة الرقم القومي أو جواز السفر للأجانب، ومع إتاحة السحب والإيداع بدون حد أدنى وأقصى. اعتبر محللون عرض البنك معبرا عن حالة الشح الدولاري بالبنوك، مشيرين إلى توجس العملاء من الإقبال على تجربة جديدة لناحية حرية السحب والإيداع. ويتوقع محللون أن يلجأ البنك المركزي إلى رفع الفائدة على الجنيه، خلال الشهر المقبل، قبل تنفيذ مرحلة التعويم الجديد، مع وجود مؤشرات بارتفاع معدلات التضخم إلى معدلات غير مسبوقة تزيد عن 35%، في أسعار المستهلكين و40% بالتضخم الأساسي بالبنك المركزي. وحصلت الحكومة الأسبوع الماضي، على قرض بقيمة 200 مليون دولار من البنك الآسيوي للتنمية للاستثمار، في محاولة مستميتة لتنويع مصادر القروض، تستهدف تمويل المشروعات المدرجة بالموازنة الجديدة.
قفزة موازية للوقود والسلع
وسجلت أسعار الوقود والطاقة في مصر معدلات زيادة متسارعة منذ عام 2014 بالتوازي مع رحلة انهيار الجنيه، حيث ارتفع سعر السولار (الديزل) المستخدم في النقل الثقيل، وسيارات النقل الجماعي، وأعمال البناء والزراعة، من 1.1 جنيه إلى 8.25 جنيهات للتر، بزيادة بلغت 650%، وبنزين (80 أوكتان) المعروف بـ"بنزين الفقراء"، من 0.9 جنيه إلى 8.75 جنيهات بزيادة 872%، وبنزين (92 أوكتان) من 1.85 جنيه إلى 10.25 جنيهات بزيادة 454%.
كذلك صعد سعر الأسطوانات الصغيرة للغاز السائل (البوتوغاز) للأغراض المنزلية (سعة 12.5 كيلوغراماً)، من 8 جنيهات عام 2014 إلى 75 جنيهاً بنسبة ارتفاع 837%، وأسعار الغاز الطبيعي للاستخدام المنزلي بنسبة 1775%، إذ زاد سعر المتر المكعب من 0.2 جنيه إلى 3.75 جنيهات.
ورغم خلو الموازنة المصرية من أي مخصصات لدعم الكهرباء منذ العام المالي 2019-2020، إلا أن الحكومة فرضت أخيراً زيادة جديدة على أسعار استهلاك الكهرباء للمنازل؛ ليرتفع سعر الكيلووات للشريحة الأدنى من الاستهلاك (أقل من 50 كيلووات في الشهر) من 0.05 جنيه إلى 0.58 جنيه عبر تسع زيادات متوالية، بارتفاع قدره 1060%.