جاءت المناوشات الحربية في البحر الأحمر بين القوات الأميركية والحوثيين في اليمن لتزيد من أزمة حركة الشحن التجاري العالمية التي تواجه بالأساس منذ عدة أشهر اختناقات بفعل جفاف قناة بنما في أميركا الوسطى، والتي تخنق بشكل خاص التجارة الأميركية التي باتت في حيرة للبحث عن بدائل موثوقة للمرور.
وتواصل تكلفة التأمين ضد مخاطر الحرب للسفن التي تبحر عبر البحر الأحمر الارتفاع، مما يضيف عائقاً محتملاً آخر أمام التجارة عبر ممر مائي اعتبرته "البحرية الأميركية" خطيراً للغاية بالنسبة إلى الشحن التجاري.
وتتقاضى شركات التأمين حالياً ما بين 0.75% و1% من قيمة السفينة للإبحار عبر هذه المنطقة، وفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر، فيما يشكّل قفزة كبيرة منذ أن استهدفت الغارات الجوية الأميركية والبريطانية الحوثيين في اليمن في نهاية الأسبوع الماضي. وقبل بضعة أسابيع فقط، كانت أسعار التغطية التأمينية حوالي عُشر هذا المبلغ. وتنطوي هذه الزيادة الحادة على خطر جعل عبور الممر المائي الحيوي مكلفاً للغاية.
ويتعين على مالكي السفن والمستأجرين المستعدين للمخاطرة بالإبحار عبر البحر الأحمر أن يدرسوا ما إذا كان من الأرخص دفع تكاليف التأمين الإضافية المتزايدة بالإضافة إلى رسوم عبور قناة السويس، أو بدلاً من ذلك اتخاذ المسار الطويل حول رأس الرجاء الصالح حول أفريقيا والذي يرفع كلفة الوقود الإضافية.
ووفق تقرير لشركة "كلاركسونز سيكيوريتيز" ومقرها أوسلو: "ارتفعت أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب بالنسبة إلى السفن بشكل كبير"، مضيفة وفق ما نقلت وكالة بلومبيرغ الأميركية أنه "ربما يجد أصحاب السفن والمستأجرون أن إعادة التوجيه حول أفريقيا أكثر فعالية من حيث التكلفة، بدلاً من تكبد التكاليف المجمعة لرسوم عبور قناة السويس وأقساط التأمين".
تكلفة التأمين ضد الحرب البالغة 1% لسفينة جديدة تبلغ قيمتها 100 مليون دولار يعني الاضطرار إلى دفع مليون دولار للإبحار عبر الأجزاء الأكثر خطورة في البحر الأحمر وخليج عدن. وتتحدد التكلفة التأمينية عموماً على أساس نسبة مئوية من قيمة السفينة خلال فترة زمنية معينة.
وقُصفت سفينة تجارية أميركية، يوم الاثنين الماضي، بصاروخ أثناء إبحارها في خليج عدن، مما يسلط الضوء على المخاطر المستمرة التي تتعرض لها السفن في المنطقة. جاء ذلك في وقت سلطت "بيمكو"، وهي مجموعة تجارية رئيسية، الضوء على تحذير "البحرية الأميركية" بأن شركات الشحن يجب أن تدرس مسألة تجنب الإبحار بهذه المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، أصدرت وزارة النقل الأميركية تحذيراً جديداً توجّه فيه سفنها التجارية بتجنب جنوب البحر الأحمر حتى إشعار آخر، بينما كان تحذير سابق قد نبّه السفن إلى تجنب المنطقة لمدة 72 ساعة.
وقال مونرو أندرسون، رئيس العمليات في شركة "فيسيل بروتكت" المتخصصة في مخاطر الحرب البحرية والتأمين لبلومبيرغ إن "معدلات التأمين تتزايد، ما يعكس التعرض الكبير والمريب للمخاطر داخل البحر الأحمر. الصعوبة الرئيسية التي ينطوي عليها الوضع الحالي هي معدل التغير في ملف المخاطر الذي يؤدي إلى تسعير أكثر ديناميكية بكثير مما هو عليه الحال عادة".
جفاف قناة بنما
وتتشابك مخاطر العبور في البحر الأحمر، مع أزمة قناة بنما التي تواجه معضلة جفاف كبيرة. وقد أدى الجفاف، الذي ربما تفاقم بسبب تغير المناخ، إلى انخفاض مستويات المياه في القناة عن أي وقت مضى، مما أجبر بنما على السماح لعدد أقل من السفن بالمرور. وقد أدت القيود إلى تأخيرات، وزيادة تكاليف الشحن، وعدم اليقين بشأن مستقبل أحد نقاط الاختناق التجارية الحيوية في العالم.
وقال سورين ستوكيبيك أندرسن، المدير التجاري الإقليمي في شركة الشحن العالمية " Leth Agencies" لمجلة فورين بوليسي الأميركية: "لقد غيّر الجفاف بشكل جذري كيفية عمل الشحن عبر القناة". ويتسبب هذا الوضع في تعطل صناعة الشحن الدولية.
ويمر ما يقرب من 5% من التجارة العالمية المنقولة بحراً عبر قناة بنما، التي تعد بوابة لـ 40% من حركة الحاويات الأميركية. ومع تزايد شيوع الظواهر المناخية المتطرفة، تخشى شركات الشحن والمحللون والحكومات أن أزمة بنما قد لا تكون انحرافاً، بل واقعاً جديداً. وقد دفع التدافع لتسليم بضائعهم في الوقت المحدد شركات الشحن إلى التساؤل عما إذا كانت القناة ستظل شرياناً موثوقاً للتجارة العالمية، كما أثار اهتماماً متجدداً بإيجاد بدائل للقناة.
وقال جوزيف شوفر، أستاذ الهندسة الفخري في جامعة نورث وسترن الأميركية، إن "الجفاف يشكل تهديداً خطيراً لقناة بنما". ولم يتم إنشاء القناة، التي تم بناؤها منذ أكثر من 100 عام، لتحمل الانخفاض الشديد في هطول الأمطار.
ويعد هطول الأمطار ضرورياً لعمليات القناة. ويتطلب كل عبور حوالي 52 مليون غالون (195 مليون لتر) من المياه العذبة لرفع وإنزال السفن داخل وخارج القناة. وتأتي هذه المياه من بحيرات صناعية تعتمد على هطول الأمطار.
يمتد موسم الأمطار في بنما عادة من أواخر إبريل/ نيسان إلى نوفمبر/ تشرين الثاني، ولكن في العام الماضي، شهد شهر أكتوبر/ تشرين الأول هطول أمطار أقل بنسبة 41% من المتوسط، ومن المتوقع أن يستمر انخفاض هطول الأمطار حتى موسم الأمطار هذا العام.
وفي ديسمبر/كانون الأول، انخفضت المياه في بحيرة جاتون، وهي أكبر بحيرة اصطناعية في بنما والخزان الرئيسي للقناة، إلى مستويات غير مسبوقة في هذا الوقت من العام، ومن المتوقع أن تتقلص مستويات المياه بشكل أكبر في الأشهر المقبلة.
ويعود الجفاف إلى ظاهرة النينيو القوية، وهو نمط مناخي يتكرر كل سنتين إلى سبع سنوات، ويشهد ارتفاع درجة حرارة سطح البحر. وتؤدي الظاهرة إلى تعطيل دوران الغلاف الجوي، مما يؤدي إلى إضعاف أو إزاحة الرياح التي كان من الممكن أن تجلب المزيد من الأمطار إلى بنما وغيرها من البلدان الاستوائية.
ورغم أن بنما معتادة على ظاهرة النينيو، إلا أن هذا الجفاف أشد من المعتاد. ومن المرجح أن تصبح الظواهر الجوية المتطرفة أكثر تواتراً مع تفاقم تغير المناخ. وقال نديم فرج الله، مدير برنامج تغير المناخ والبيئة في معهد عصام فارس التابع للجامعة الأميركية في بيروت: "لم نشهد بعد الانفجار الكامل لظاهرة النينيو".
وستكون العواقب وخيمة بالنسبة لبنما. فمن ناحية، يعتمد اقتصاد بنما بشكل كبير على القناة. وفي عام 2022، حققت إيرادات بقيمة 4.32 مليارات دولار، أي ما يعادل حوالي 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وقد يكلف الجفاف الناجم عن ظاهرة النينيو القناة ما يقدر بنحو 200 مليون دولار من الإيرادات في السنة المالية الحالية.
لكن الجفاف يهدد أيضاً إمدادات المياه في بنما. كما توفر بحيرة جاتون، التي تغذي القناة، نصف مياه الشرب في بنما، ويتطلب عبور سفينة واحدة كمية من المياه تعادل ما يستهلكه نصف مليون بنمي في يوم واحد.
استجاب المسؤولون البنميون للجفاف بفرض ضوابط مشددة على عبور القناة. وفي الأشهر الأخيرة، قامت هيئة قناة بنما بتقييد المرور عبر القناة، من حوالي 36 إلى 24 سفينة يومياً، وهو الحد الذي سيتم تخفيضه مرة أخرى إلى 18 سفينة في فبراير/ شباط المقبل.
وقالت هيئة قناة بنما في رسالة بالبريد الإلكتروني، وفق فورين بوليسي، إنها تنفذ تدابير إضافية لتوفير المياه. وسمحت بعبور سفينتين في وقت واحد إذا كانت السفن صغيرة بما يكفي.
والجفاف الحاصل يضع قيوداً على حملات السفن وعمقها في الماء. وتوقع الخبراء أن هذا قد يجبر بعض السفن على تقليل حمولتها بنسبة تصل إلى 40%.
البحث عن بدائل
وأكد الرئيس البنمي السابق مارتن توريخوس، الذي قاد مشروعاً لمضاعفة قدرة القناة في عام 2006، أن القيود غير المتوقعة دفعت مستخدمي القناة إلى القلق بشأن قدرتها المستقبلية وموثوقيتها.
وبحسب أندرسن فإنه قبل الجفاف، كان بإمكان السفن حجز المرور عبر القناة قبل ثلاثة أسابيع أو الانتظار في الطابور دون حجز. ولكن الآن، تضاعفت أوقات الانتظار خمس مرات في بعض الحالات، ويتم حجز المواعيد أحياناً قبل أشهر. وتواجه شركات الشحن ثلاثة خيارات - وكلها مكلفة: الدفع مقابل تجاوز الطابور، أو الانتظار، أو إعادة التوجيه.
بالنسبة للسفن التي تختار تغيير مسارها، فإن البدائل الثلاثة الرئيسية هي قناة السويس في مصر، ومضيق ماجلان في تشيلي، ورأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا. الأخيران موثوقان ولكنهما يتطلبان رحلات أطول بكثير.
والخيار الأقصر هو قناة السويس، الممر المائي الاصطناعي الذي يربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر. ويمكن لقناة السويس أيضاً أن تسمح بدخول المزيد من السفن، حيث يمكن أن تستخدمها ما يصل إلى 100 سفينة في اليوم الواحد، أي أكثر من أربعة أضعاف القدرة الحالية لقناة بنما.
عسكرة البحر الأحمر
ولكن مع عسكرة البحر الأحمر، هناك مخاوف جدية بشأن العبور في الممر الملاحي الحيوي ومن ثم قناة السويس أيضاً. وفي البحر الأحمر، تشن الولايات المتحدة وبريطانيا ضربات ضد الحوثيين في اليمن، الذين كثفوا هجماتهم على السفن الإسرائيلية وغيرها من الجنسيات الأخرى المتجهة صوب إسرائيل تضامناً مع الفلسطينيين في غزة الذين يتعرضون لعدوان إسرائيلي مدمر منذ 103 أيام.
ويعتبر الرئيس الأميركي جو بايدن أن الضربات ضد الحوثيين تأتي في إطار حماية التجارة الدولية عبر ما تصفه واشنطن بعملية "حارس الازدهار". ومع تصاعد الأزمة البحرية، بدأت السفن في تغيير مسارها، وأوقفت العديد من كبريات شركات الشحن العالمية رحلاتها مؤقتاً في منتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، وامتد القلق إلى ناقلات النفط والغاز التي أوقفت شحنات لها مؤقتاً كما غيرت مساراتها بعيداً الممر المضطرب.
وقد أدى البحث عن خيارات بديلة لقناة بنما إلى زيادة الاهتمام بطرق التجارة في دول أميركا اللاتينية التي تأمل في جذب حركة المرور من قناة بنما. بعض هذه لم يتم بناؤها بعد.
وفي نيكاراجوا، قال الرئيس دانييل أورتيغا إنه يريد إحياء خطة لبناء قناة بين المحيطات، لكن العديد من مواطني نيكاراجوا يرفضون هذا الاحتمال في واحدة من أفقر دول المنطقة وأكثرها فساداً.
وربما تكون خطط كولومبيا أكثر واقعية بعض الشيء. وفي رسالة بالبريد الإلكتروني إلى مجلة فورين بوليسي، قالت وزارة النقل الكولومبية إن الحكومة قد طورت بالفعل المرحلة الأولى من خطط إنشاء قطار عبر المحيطات بطول 123 ميلًا (حوالي 198 كيلومتر) مع أنفاق بطول 7 أميال لربط سواحل البلاد على المحيط الهادئ والبحر الكاريبي. وتتوقع الوزارة أن يكون المشروع جاهزاً لطرح المناقصة بحلول نهاية العام الجاري 2024.
وهناك مشاريع أخرى اكتملت بالفعل أو قيد التنفيذ. وفي عام 2022، افتتحت باراجواي النصف الأول من الطريق السريع المزدوج، ممر طريق المحيط الحيوي، والذي سيمتد من تشيلي عبر الأرجنتين وباراجواي، وينتهي في البرازيل.
وفي 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي، افتتحت المكسيك جزءاً من مشروع للسكك الحديدية بقيمة 2.8 مليار دولار للتنافس مع القناة من خلال نقل البضائع بين المحيطين الهادئ والأطلسي.
ومع ذلك، يشكك الخبراء في أن هذه المشاريع ستشكل تهديداً لقناة بنما في أي وقت قريب. وعلى الرغم من أن جوزيف شوفر، أستاذ الهندسة الفخري في جامعة نورث وسترن الأميركية، يرى أن المشروع المكسيكي واعداً، إلا أنه يعتقد أنه لن ينجح إلا بالنسبة لجزء صغير من البضائع المنقولة بين المحيطين الأطلسي والهادئ، وأن التكاليف المرتفعة تجعله أقل جاذبية من قناة بنما.
كما قال سورين ستوكيبيك أندرسن، المدير التجاري الإقليمي في شركة الشحن "Leth Agencies"، إن شركات الشحن العالمية من غير المرجح أن تراهن على طرق غير مختبرة في صناعة تعتبر الموثوقية فيها أمراً أساسياً.
في الوقت الحالي، ستظل قناة بنما بمثابة الممر التجاري الرئيسي في المنطقة. ولكن إذا لم تستجب سلطات القناة للظواهر المناخية المتطرفة المتصاعدة، فإنها تخاطر بخسارة أعمالها في المستقبل.
ويتمثل أحد الحلول، التي اقترحها مجلس إدارة القناة، في إقامة سد على نهر إنديو وحفر نفق عبر جبل قريب لتوصيل المزيد من المياه إلى بحيرة جاتون. ومن المتوقع أن يكلف هذا حوالي 900 مليون دولار ويمكن أن يستغرق بسهولة ست سنوات لإكماله.
ومع ذلك، في حين كان هناك دعم شعبي واسع قبل توسيع القناة في عام 2006، إلا أن هذا المشروع أكثر إثارة للجدل. ومن شأن السد الجديد أن يغمر الأراضي ذات التنوع البيولوجي ويؤدي إلى نزوح المجتمعات المحلية، ويخشى السياسيون الموافقة عليه قبل الانتخابات الرئاسية في بنما في مايو/أيار.
لقد أثار احتمال إنشاء خزان جديد جدلاً ساخناً بالفعل. وتصاعدت التوترات السياسية منذ الخريف الماضي، عندما أصابت المظاهرات الشعبية البلاد بالشلل لأكثر من شهر.
فقد احتج البنميون على العقد الحكومي المتسرع الذي سمح لشركة "مينيرا بنما"، وهي شركة تابعة لشركة "فيرست كوانتوم مينيرالز" الكندية، بتشغيل منجم نحاس عملاق مفتوح الحفرة في غابة متنوعة بيولوجيا في البلاد لمدة عشرين عاماً على الأقل. وهتف الناس في الشوارع: "نحن دولة قناة، ولسنا دولة تعدين".
وقالت رايسا بانفيلد، نائبة عمدة مدينة بنما السابقة ورئيسة منظمة بنما المستدامة، إن الاحتجاجات كشفت عن أزمة هوية البلاد في سعيها لرسم مستقبلها.
وأشار شوفر إلى أنه بغض النظر عما إذا كانوا سيبنون السد الجديد، فيجب على سلطات القناة التخطيط للمستقبل، معربا عن أمله في أن تمنح المنافسة القناة "حافزاً حقيقياً للقيام بعمل جيد".
وعلى المدى الطويل، فهو واثق من أن هيئة قناة بنما سوف تتوصل إلى حلول، تماماً كما فعلت على نطاق أصغر في عام 2016، عندما نجحت في تنفيذ أحواض توفير المياه التي خفضت احتياجات القناة من المياه. وأضاف: "لكن هذا سيستغرق وقتاً.. كما أن كيفية إدارة الأمر في هذه الأثناء سيكون مثيراً للاهتمام حقاً".