شهدت أسعار الحديد في مصر قفزات متواصلة في الفترة الأخيرة لم يشهدها السوق المحلي من قبل حتى في "عامي الاحتكار" 2007-2008، واللذين سيطر خلالهما إمبراطور الحديد أحمد عز على المشهد السياسي والاقتصادي، وتحكّم وقتها في سوق الحديد ضمن مجموعة من كبار المحتكرين أصحاب النفوذ السياسي، وخالف وقتها القوانين القائمة، خاصة قانون المنافسة ومنع الاحتكار، ولم يجد عز ساعتها من يردعه؛ لأنه كان الطفل المدلل لدى نظام مبارك الحاكم والرجل الثاني في الحزب الوطني المنحل وأمين التنظيم فيه، بل والمسؤول الأول عن لجنة الخطة والموازنة بالبرلمان.
وبسبب قفزات أسعار الحديد الأخيرة تجاوز سعر الطن 12.4 ألف جنيه (الدولار يساوي 17.6 جنيهاً) مقابل نحو ستة آلاف جنيه قبل أشهر، وما إن يلتقط السوق أنفاسه حتى يجد المستهلك نفسه أمام قرار جديد بزيادة الأسعار من قبل مصانع الحديد، وفي مقدمتها شركات أحمد عز، لدرجة أن السوق قد يشهد زيادات عدة في الأسبوع الواحد.
إذن هناك مشكلة كبيرة تهدد سوق البناء والتشييد في مصر، خاصة أن الحديد هو الأعلى تكلفة في مواد البناء. أدت الزيادات المتواصلة في أسعار الحديد منذ شهر يونيو/ حزيران الماضي إلى حدوث حالة من الركود الشديد داخل سوق العقارات وتعطّل إنشاء آلاف المساكن والمشروعات، بل وتهديد مشروع الإسكان الاجتماعي الذي تتولّاه الدولة لمصلحة الطبقات الفقيرة والمتوسطة.
كذلك أدّت قفزات سعر مواد البناء إلى إفلاس آلاف من شركات المقاولات وتعثّرها مالياً وخروجها من السوق، بعد أن عجزت عن تحمّل التكاليف المتواصلة الناتجة عن زيادة أسعار كل مواد البناء، وفي مقدمتها الحديد والإسمنت، والأخطر هنا هو توقف العمل في أكثر من ثُلثي مشروعات الطرق والإسكان، بحسب تقارير رسمية.
هنا كان على الحكومة أن تتحرك بسرعة لمواجهة مشكلة زيادة أسعار الحديد لأسباب عدة، منها أن سوق مواد البناء يعمل فيه ملايين المصريين ويعد الأكثر استيعاباً للأيدي العاملة، وأي ركود في هذا القطاع يعني زيادة البطالة في مجتمع يبحث فيه ملايين الشباب عن فرصة عمل مناسبة، كما أن الأزمة أدت إلى حدوث مزيد من الركود في سوق العقارات وإخراج شركات بناء وتشييد ومقاولات صغيرة ومتوسطة من السوق.
كذلك أدت الزيادات إلى حدوث ارتفاع في أسعار الوحدات والمشروعات الجديدة بنسب تصل لنحو 20%، وهي نسبة كبيرة، خاصة مع الأعباء الملقاة على كاهل الأسرة المصرية بسبب زيادة معدلات التضخم إلى أرقام قياسية وقيام الحكومة بإجراء زيادات عدة في أسعار الكهرباء والوقود والمياه.
تحرّك الحكومة كان من المفروض أن يتم في اتجاهات عدة:
الأول: زيادة إنتاج المصانع القائمة وليس خفضه، وملاحقة المصانع التي قامت بخفض إنتاج الحديد في الأشهر الماضية، إما بهدف "تعطيش" السوق أو لتقليص تكلفة الإنتاج الزائدة والناتجة عن زيادة سعر البليت؛ وهو الخام المستخدم في صناعة الوقود عالمياً، أو بسبب قرارات الحكومة الأخيرة المتعلقة برفع سعر الوقود الذي يعد أحد أبرز بنود التكلفة داخل مصانع الحديد، وقبلها تعويم الجنيه.
الثاني: مراقبة الحكومة الأسواق وفرض رقابة شديدة على المصانع التي ترفع أسعارها أكثر من مرة وبشكل مبالغ فيه ولا تتناسب مع زيادة تكلفة الإنتاج أو زيادة أسعار البليت عالمياً.
الثالث: زيادة المعروض من الحديد في السوق عن طريق فتح الباب أمام التجار لاستيراد الحديد من الخارج، إضافة إلى إلغاء رسوم الإغراق المفروضة، تحديداً على الحديد التركي والصيني والأوكراني، وبهذا ستخلق الحكومة منافسين جدداً للمصانع المحلية، وهذا التنافس سيعيد الاستقرار إلى الأسعار وسيوقف القفزات المحلية، ما ينعكس إيجاباً على سوق مواد البناء.
لكن بدلاً من قيام الحكومة بالخطوات الثلاث أصدرت وزارة التجارة والصناعة، اليوم، قراراً بتمديد فرض رسوم الإغراق المؤقتة على واردات حديد التسليح من الصين وتركيا وأوكرانيا.
بالطبع، جزء من القرار الصادر اليوم قد يأتي في إطار المناكفة السياسية بين مصر وتركيا، خاصة أن الحديد التركي كان يلقى رواجاً شديداً داخل السوق المصري قبل قرار فرض رسوم الإغراق ووضع قيود على استيراده، لكن الأخطر في القرار الحكومي هو أن الحكومة تركت السوق نهباً للمحتكرين وتحت سيطرة تجار الحديد، وفي مقدمتهم أحمد عز الباحث عن دور سياسي.