في أعقاب الأزمة المالية العالمية التي ضربت أسواق العالم خلال الفترة بين عامي 2008 – 2010، شعر الكثير من أفراد الطبقات الفقيرة والمتوسطة بالظلم الذي وقع عليهم، بعد أن تسببت مطامع حفنة من المضاربين والمستغلين للأسواق المالية في خسارتهم وظائفهم ودخولهم، وفي كثير من الأحيان فقدانهم منازلهم التي عملوا لسنوات طويلة لجمع تكلفة شرائها، فبدأت بعض الأصوات ترتفع مطالبةً بوضع المزيد من القيود على العمليات التي تتم في حي المال الشهير " وول ستريت"، لمنع تعرض الملايين ممن لا علاقة لهم بالأسهم أو السندات التي يتم تداولها فيها لمزيد من الآلام.
وتزامنت تلك الاحتجاجات على الأوضاع في واحدة من أهم قلاع الاقتصاد الأميركي مع وصول الرئيس الديمقراطي باراك أوباما إلى البيت الأبيض، مع ما هو معروف من "إعلان" الديمقراطيين الدائم عن انحيازهم للطبقات الأضعف أمام أصحاب الشركات وعمالقة وول ستريت، فتم إقرار قانون إصلاح وول ستريت الذي عرف باسم دود فرانك، إلا أنه على ما يبدو لم يلب طموحات المتضررين وقتها، بعد أن أخرجوا من ديارهم وصَعُب عليهم شراء الطعام لأبنائهم.
بعدها بعام، وتحديداً في سبتمبر/ أيلول 2011، تأسست حركة "احتلوا وول ستريت" Occupy Wall Street، كحركة احتجاجية ضد عدم المساواة التي أدت إلى تربّح المئات من المؤسسات المالية، الفاسدة على حد تعبيرهم وقتها، على حساب الأفراد منخفضي ومتوسطي الدخل لسنوات، ثم ما تلا ذلك من انحياز الحكومة الفيدرالية الأميركية، كما غيرها من حكومات في أوروبا ودول أخرى، إلى تلك المؤسسات والإسراع بإنقاذها من الإفلاس وقت الأزمة المالية العالمية على حساب دافعي الضرائب من المواطنين البسطاء.
ونظمت الحركة وقتها مسيرات في شوارع عاصمة المال شارك فيها الملايين من المؤيدين لها، فسببت صداعاً لتلك المؤسسات، وشاهدنا صور مئات العاملين بها يتم حمايتهم بقوات الشرطة عند دخولهم أو خروجهم منها لعدة أسابيع.
رفع المحتجون وقتها شعارات متعددة، أشار أغلبها إلى التفاوت في الدخل والثروات بين المنتمين لتلك المؤسسات، الذين يمثلون أقل من 1% من أفراد الشعب، بينما يستحوذون على ما يقرب من 99% من الثروات.
وبعد طردهم من حديقة زوكوتي في حي مانهاتن الشهير بمدينة نيويورك، والمتكدس بالمؤسسات المالية الضخمة، حَوَّل المتظاهرون تركيزهم إلى احتلال البنوك ومقار الشركات واجتماعات مجالس الإدارة والمنازل المغلقة والكليات والجامعات، وكتبت الصحف وقتها أن الحركة تبحث عن "ميدان التحرير" للتعبير عن ثورتها، تيمناً بالثورة المصرية العظيمة التي انطلقت مطلع عام 2011، قبل أن ينقض عليها العسكر في وقت لاحق.
وعلى مدار عقود، أشعل التفاوت في الدخول والثروات الكثير من الاحتجاجات، حيث أشارت أكثر من دراسة جامعية إلى أن نصف القرن الأخير شهد ارتفاعاً كبيراً في هذا التفاوت، بدرجة تجاوزت أي وقت سابق، وأن الممارسات غير المنضبطة من المؤسسات المالية والشركات الأميركية الضخمة لعبت الدور الأكبر في تعميق هذا التفاوت.
وبعد ما حفل به العام الماضي من أهوال، نتيجة لظهور وانتشار وباء كوفيد-19، الذي تسبب في وفاة ما يقرب من 450 ألف أميركي وإصابة أكثر من 26 مليون غيرهم، وفقدان ملايين الأميركيين وظائفهم ودخولهم، واضطرار ملايين الأسر للانتظار في طوابير الطعام لساعات، أشارت دراسة صادرة عن معهد الدراسات السياسية في واشنطن أخيراً، إلى أن مليارديرات الولايات المتحدة، لم يكونوا فقط قادرين على حماية أنفسهم بدرجة أعلى بكثير من الفئات الأقل دخلاً من الوباء القاتل، وإنما استطاعوا أيضاً خلال الفترة من شهر مارس/ آذار إلى نوفمبر / تشرين الثاني من العام الماضي إضافة ما يقرب من 940 مليار دولار إلى ثرواتهم، الأمر الذي تسبب في اشتعال الغضب مرة أخرى على ذئاب وول ستريت، الذين كان لهم النصيب الأكبر من الزيادة التي شهدتها الثروات الأميركية.
وعلى عكس ما عرف عن مديري المحافظ في "صناديق المغامرات"، التي يطلق عليها إفكاً وزوراً "صناديق التحوط" بينما يسمح لها بالاستثمار في الأصول الأعلى في درجات المخاطرة، من الاتفاق سراً على موائد العشاء على شراء أو بيع سهم معين، اتفق الآلاف من الهواة، على أعين الناس، على شراء مجموعة من الأسهم التي راهن أصحاب الصناديق على انهيارها واقترابها من الصفر، فكانت النتيجة خسارة تلك الصناديق لعشرات المليارات من الدولارات، واقتراب بعضها من حافة الإفلاس عند كتابة هذه السطور.
اتفق "المستثمرون الصغار" على شراء هذه الأسهم، أولاً لأنهم يرون فيها "قيمة ضمنية" لا تتناسب مع أسعارها المنخفضة، ومن ناحية أخرى لتلقين مديري الصناديق درساً قاسياً، حيث اعتبروهم مسؤولين عن استمرار الانخفاض في قيمة تلك الأسهم من خلال العديد من ممارساتهم، المشروعة قانوناً، والتي يرفضها البعض من منظور أخلاقي، وعلى رأسها عمليات البيع على المكشوف، التي تراهن على انخفاض سعر بعض الأسهم، وتساهم في زيادة الضغوط البيعية عليها.
اعتبر المشاركون في تلك العمليات من المستثمرين الصغار أنهم باتفاقاتهم تلك يعيدون إلى وول ستريت ضغوط فرض المزيد من القيود على تعاملات الصناديق الضخمة، التي دأبت على استغلال الثغرات الموجودة في القوانين المنظمة لتلك المعاملات، من أجل بيئة أكثر عدالة ومساواة، في واحدة من أهم معاقل الاقتصاد الرأسمالي الذي لا يرحم.
ما حدث خلال الأسبوع الماضي جاء ليطلق صافرات الإنذار لمن هم داخل أو خارج وول ستريت، وينبههم إلى أن سهولة وصول الجموع إلى الأسواق، كما التداخل الحالي بين شبكات التواصل الاجتماعي والنظام المالي العالمي مما لم يكن له نظير من قبل، ينذر بتغير مراكز القوى، لا على مستوى أسواق المال وحدها، وإنما على كافة المستويات، الأمر الذي ربما يبعث الأمل من جديد في عالم أكثر عدالةً وتوازناً، تقل فيه الفوارق بين الطبقات، نتمنى أن نراه يتحقق بأقل قدر من الخسائر، وأقل عدد من الانهيارات والإفلاسات، سواء بين الصغار أو الكبار داخل وول ستريت.