لا توجد مؤسسة مالية دولية أكثر فشلاً من صندوق النقد الدولي الذي تأسس مع نهاية الحرب العالمية الثانية كوكالة متخصصة من منظومة بريتون وودز بهدف منع وقوع الأزمات في النظام الاقتصادي العالمي، وتحقيق استقرار في أسواق الصرف.
تقاريره وتوقعاته باتت غير دقيقة، بل أحياناً خاطئة وكاذبة، والدليل توقعاته لدول جنوب شرق آسيا التي انهارت في منتصف تسعينيات القرن الماضي عقب أيام من وصف الصندوق تجربتها الاقتصادية بالمعجزة وإطلاق لفظ النمور الآسيوية عليها، وتوقعاته أيضاً لدول أخرى استنجدت به، مثل الأرجنتين التي توقع لها طفرة اقتصادية ونمو كبير، فإذا هي غارقة في الديون والاضطرابات الاجتماعية والسياسية وتهاوي قيمة العملة، واتفقت قبل أيام على قرض جديد بقيمة 44 مليار دولار.
أول نصيحة يقدمها الصندوق لحكومات الدول المأزومة مالياً هي تعويم العملة المحلية، وزيادة الضرائب وأسعار السلع الأساسية وخفض أسعار الوقود
روشتات الصندوق باتت تدهس الفقراء والمعدمين وتزيد عددهم يوما بعد يوم وتحابي الحكومات والأغنياء، وتوصياته مملة لا جديد فيها ولا تحديث رغم التطورات الكبيرة التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال السنوات الأخيرة بخاصة في فترة ما بعد أزمة 2008 المالية وجائحة كورونا.
صندوق النقد فاشل بامتياز في تشخيصه للأزمات والمشاكل، فعلى الرغم من أنّ أسباب الأزمات الاقتصادية والمالية تختلف من دولة لأخرى، لكنّ روشتته لا تختلف من اقتصاد لآخر، ومن فترة لأخرى.
أول نصيحة يقدمها لحكومات الدول المأزومة مالياً هي تعويم العملة المحلية وخفض قيمتها مقابل الدولار، ورفع أسعار السلع الأساسية، بما فيها السلع الغذائية والبنزين والسولار وحتى غاز الطهي، وبيع الخدمات المقدمة للمواطن بأسعار التكلفة وبلا دعم حكومي سواء الكهرباء أو المياه، وزيادة تعريفة المواصلات العامة، والنتيجة تأزيم الأحوال المعيشية للمواطن، وقذف الملايين نحو الفقر المدقع والضياع المالي.
يطلب الصندوق من الحكومات أيضا زيادة الضرائب والجمارك والرسوم الحكومية التي يدفعها المواطن مقابل الحصول على خدمة من جهة رسمية حتى لو كانت شهادة وفاة، أو شهادة تثبت أنه فقير ومعدم يستحق الفتات من المال الذي تلقيه له الحكومة من وقت لآخر.
عندما يفرض إملاءاته على الدول المأزومة ماليا فإنه يحتمي بالولايات المتحدة، أكبر مساهم به والدولة صاحبة السيطرة على صناعة القرار به، كما يحتمي بكبار الدائنين الاخرين.
صندوق النقد تحول إلى رمز للتبعية ومؤسسة مالية تساند الحكومات المستبدة وأحيانا الفاسدة، تمنح قروضا لأنظمة تحكم شعوبها بالحديد والنار ولا تحترم دستورا ولا نتائج انتخابات حرة، مؤسسة تسارع لإنقاذ المستبدين الذين ينفذون إملاءاته وشروطه القهرية بقوة السلاح، ومن يعارض تنفيذ تلك الإملاءات المذلة قد يلقى به في غياهب السجون أو يتهم بتقويض النجاحات الاقتصادية للبلاد.
صندوق النقد تحول إلى رمز للتبعية ومؤسسة مالية تساند الحكومات المستبدة وأحيانا الفاسدة، تمنح قروضا لأنظمة تحكم شعوبها بالحديد والنار
كل ما يهم تلك المؤسسة الفاشلة هي الأرقام الصماء بغض النظر عن مدلولاتها ودقتها وتأثيراتها الخطيرة، وأحيانا يكون كبار مسؤولي الصندوق في قمة النشوة حينما يشاهدون وزير مالية في إحدى الدول المقترضة وهو يخرج على الفضائيات ووسائل الإعلام ليتحدث بفخر عن تحقيق فائض أولي في الموازنة العامة رغم أن القاصي والداني، بمن فيهم هؤلاء الكبار، يدركون أن هذا الكلام هو نوع من الخداع للجماهير، وأن الموازنة تعاني من عجز حاد وقاس ومستمر، وأن أزمة الدين العام، سواء المحلي أو الخارجي، تتفاقم يوما بعد يوم وتضغط على الاقتصاد والعملة المحلية والأحوال المعيشية للمواطن.
المهم هنا بالنسبة للصندوق هو "اللقطة" ونشر أخبار وتقارير في وسائل الإعلام المختلفة على نطاق واسع عن تحقيق فائض أولي وتحسن المؤشرات الاقتصادية بفضل اتفاق وقروض المؤسسة المالية حتى لو خبأت تلك الأرقام كوارث خلفها، وقبلها هدف أكبر هو ضمان استرداد أمواله وأسعار الفائدة والرسوم الإدارية المستحقة عليها.
ينتشي مسؤولو الصندوق بل ويتفاخرون عندما يعلن محافظ بنك مركزي في إحدى الدول المدينة له عن حدوث ارتفاع أو قفزة في الاحتياطي الأجنبي رغم أن هؤلاء يعرفون جيدا أن تلك القفزة حدثت نتيجة تراكم قروض خارجية وليست ناتجة عن إنتاج حقيقي، أو زيادة صادرات سلعية وتحقيق الدولة خطوات ملموسة للاكتفاء الذاتي من القمح والأغذية والأدوية.
تزيد تلك النشوة عندما تتحدث الحكومات المقترضة ليل نهار عن زيادة معدل النمو الاقتصادي رغم أن هذا المعدل لم يشعر به المواطن، وليس ناتجا عن زيادة إنتاج المحاصيل الزراعية وإعادة تشغيل المصانع المغلقة، أو زيادة موارد الدولة الدولارية، أو حدوث طفرة في الاستثمار المباشر وخلق فرص عمل لملايين الشباب، وإنما ناتج عن السفه في الاقتراض الخارجي وتدفق مليارات من أصحاب الأموال الساخنة الباحثين عن الأرباح السريعة والذين يهربون عند حدوث أي خطر.
ليدلنا أحد إلى تصريح صدر عن مسؤولي الصندوق يطالب الحكومات اللاهثة وراء قروضه بوقف بناء الفنادق والقصور وناطحات السحاب وشراء الطائرات
عندما يزيد الضغط الشعبي على حكومات الدول المقترضة يسارع الصندوق ناصحا تلك الحكومات بالخروج بسرعة والإعلان عن تخصيص أموال ضخمة للحماية والبرامج الاجتماعية ومساعدة الطبقات الفقيرة والكادحة، لكن تلك الخطط لا ترى غالبا النور، وإذا خرجت فالمبالغ التي يتم ضخها هزيلة، والدليل زيادة معدلات البطالة والفقر والفقر المدقع وإغراق الدول في تلك الديون ودفعها مجدداً نحو تعويم عملتها والاقتراض لسداد القروض المستحقة.
لم نسمع مثلا عن تقديم صندوق النقد نصائح للحكومات المقترضة بترشيد الإنفاق العام والتوقف عن تعيين آلاف المستشارين في الجهاز الإداري للدولة، والتوقف عن شراء أساطيل السيارات الفارهة لكبار المسؤولين وإقامة مؤتمرات ومنتديات لا فائدة منها.
ليدلنا أحد إلى تصريح واحد صدر عن كبار مسؤولي الصندوق يطالب الحكومات اللاهثة وراء قروضه بوقف بناء الفنادق الفارهة والقصور الفخمة وناطحات السحاب وشراء الطائرات الرئاسية، أو حتى يطالبها بمكافحة الفساد والرشى والتهرب الضريبي والجمركي أو محاسبة كبار المسؤولين الفسدة.
ليدلنا أحد على تصريح واحد صدر عن كبار مسؤولي المؤسسة المالية يتحدث عن ضرورة استعادة الحكومات الأموال المنهوبة في الخارج من قبل مسؤولين سابقين وأسرهم ورموزهم، أو ضرورة بذل مجهود أكبر لاسترداد تلك الأموال المودعة في بنوك سويسرا وأوروبا والمستثمرة في ملاذات ضريبة والتي تقدر بمليارات الدولارات.
ليدلنا أحد على النجاحات التي حققها الاقتصاد المصري خلال الفترة من 2016 إلى 2021، وهي الفترة التي اقترضت فيها البلاد أكثر من 20 مليار دولار من صندوق النقد وما يقرب من 120 مليار دولار من دول ومؤسسات أخرى.
ليقل لنا أحد في تونس والمغرب والأردن والسودان ولبنان وغيرها من الدول التي استنجدت بصندوق النقد، هل وجدتم ما وعدكم الصندوق حقا، أم وجدتم السراب والغلاء والتضخم وتلال الديون والأزمات المالية والاقتصادية؟
المؤسسة المالية تدمر الاقتصادات الوطنية ولا تبنيها، تعمق مبدأ الاستدانة وسياسة الاعتماد على الغير، تتسبب في حدوث اضطرابات
هذه المؤسسة المالية التي تحمل اسم صندوق النقد الدولي تدمر الاقتصادات الوطنية ولا تبنيها، تعمق مبدأ الاستدانة وسياسة الاعتماد على الغير، تتسبب في حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية، لا تساعد في تحقيق استقرار حقيقي لأي دولة مقترضة، بل تخلق برامجها اقتصادات هشة قائمة على القروض والمنح والمساعدات، تقتل أي محاولات للاعتماد على النفس وتعميق الإنتاج الوطني والصناعة المحلية.
ولذا على الحكومات الوطنية التوقف عن التعامل مع تلك المؤسسة التي أصبحت عارا على المنظمات التابعة للأمم المتحدة، والبحث عن آلية جديدة لإنقاذ الدول المأزومة، فهذه المؤسسة الجامدة في أفكارها وخططها وأدواتها ثبت فشل سياساتها، وأحياناً كذبها ومشاركتها بعض الحكومات في خداع المواطن ودفعه نحو كره الحياه، وربما قتل أولاده لعدم قدرته على إطعامهم.