يترك العدوان الأخير على غزة آثاره الاقتصادية، ويضيف أعباء تراكمت من سلسلة حروب شنتها دولة الاحتلال منذ 2008، منها اجتياح 2014، غير ما يعانيه القطاع من أزمة اقتصادية هيكلية، مرتبطة بتخلف وسائل الإنتاج، وضعف القطاع الصناعي الذي كان يستهدفه الاحتلال بشكل متكرر، ليبقى القطاع معتمداً على السوق الخارجية، ويعاني مشكلات اجتماعية واقتصادية، لا حصر لها، بفعل تخلف البنية الاقتصادية، وضمن أسبابها الرئيسية، الحصار، الذي يعمق الارتباط والتبعية للاقتصاد الإسرائيلي، رغم الانسحاب من غزة في أغسطس 2005 (خطة فكّ الارتباط) والتي انعكست ديموغرافيا على مناطق عربية نقل إليها مستوطنو غزة كمدينة اللد ويافا وعكا.
لم تستهدف إسرائيل أماكن فصائل المقاومة وعناصرها، وهو ما يتضح من حجم التدمير الهائل، للمباني والمساكن، والأبراج التي وصمتها بأبراج الإرهاب، إلى جانب، مؤسسات تجارية وصناعية وخدمية، أي أنّها أرادت تعطيل كلّ سبل الحياة، عن طريق آليات الحرب، وهو ما يراكم الأعباء الاجتماعية بجانب آثار استمرار الحصار المفروض براً وبحراً وجواً، كأحد أسباب استدامة الأزمة.
تستخدم دولة الاحتلال الأداتين، العدوان العسكري، والحرب الاقتصادية، للحدّ من قدرات سكان القطاع على الحياة، وجعلهم في حالة قلق ومعاناة دائمين
تستخدم دولة الاحتلال الأداتين، العدوان العسكري، والحرب الاقتصادية، للحدّ من قدرات سكان القطاع على الحياة، وجعلهم في حالة قلق ومعاناة دائمين، كما تستهدف الحياة السياسية بالتبعية، ودفع قطاعات من السكان للتفكير بشكل دائم في تبعات وتكلفة الحرب، غير ما يخلفه مجمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من آثار نفسية لا يستهان بها.
كما تجاوزت معدلات البطالة في غزة 47 في المائة، وتصل بين الشباب إلى 72 في المائة وترتفع خصوصاً في منطقتي رفح ودير البلح، وهو ما يترتب عليه، ارتفاع نسبة الإعالة، خصوصاً مع ارتفاع نسبي لحجم الأسر (5.6 أفراد) بحسب استطلاع الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني عام 2017، ويعاني ما يزيد عن نصف السكان الفلسطينيين من الفقر، بينما يشكل سكان غزة 67 في المائة من الفئات التي تعيش دون خط الفقر، بحسب بيانات للإحصاء الفلسطيني لعام 2018.
وساهم استهداف القطاعات الإنتاجية الصناعية والزراعية، وقطاع الصيد، مع سياسات الحصار، في تكريس هذه الأوضاع منذ 2008، وتضررت المصانع بشكل مباشر عبر الاستهداف والقصف (حوالي 500 مصنع) أو بشكل غير مباشر، عبر قيود على الاستيراد والتصدير، وتعطل حركة السوق، ونقص السيولة، وانخفاض القوة الشرائية، وتوقفت معظم المصانع بشكل جزئي وكلي، عدا عن تضرر قطاعات الخدمات والطاقة والصحة.
في العام الماضي، قدرت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد) خسائر القطاع من الحروب في عشر سنوات بنحو 16.15 مليار دولار، وهي بحسب كبير الاقتصاديين بالمنظمة، الدكتور محمود الخفيف، تتجاوز ستة أضعاف الناتج المحلي الإجمالي لغزة في عام 2018، بينما لم تُرصد تكاليف حصار القطاع الذي يضم مليوني نسمة، ويعد من بين أكثر المناطق كثافة سكانية، حيث يعيش حوالي 5.533 فرداً/كم2، ويعد 66% من سكانه من اللاجئين، بينما تبلغ الكثافة السكانية في الضفة الغربية 534 فرداً/كم، بحسب الإحصاء الفلسطيني.
أما الحرب الرابعة (مايو/ أيار 2021) فقد انتهت بهدنة وقف نار غير مشروطة، كنتيجة لقدرات المقاومة ومساندة شعبية أجبرت إسرائيل على وقف العدوان، لكنّ ذلك لا يلغي آثاراً وضغوطاً اقتصادية جديدة، خصوصاً مع استمرار سياسة إسرائيل في مزامنة الحرب الهمجية مع هدم الإمكانيات الاقتصادية، بما فيها استهداف مؤسسات الخدمات والتجارة والمصانع، لتكريس الأزمة وتعميقها.
وبلغت أعداد المنازل التي هُدمت في الفترة من 2008 وحتى 2014 ما يزيد على 26 ألف منزل، بحسب مؤشرات وزارة الإسكان الفلسطيني عام 2015، بينما تشير بيانات الحصر الأولية التي نفذتها وزارة الأشغال الفلسطينية إلى تدمير 1800 وحدة سكنية بشكل كلي، و16 ألف وحدة بشكل جزئي، بالإضافة إلى تدمير 74 منشأة ومقراً حكومياً خلال عدوان مايو، غير نزوح 120 ألف مواطن، وفي تقديرات أولية، تبلغ تكاليف الأضرار في المساكن 150 مليون دولار.
واستهدفت أيضاً البنية التحتية ومؤسسات الخدمات العامة، وشكلت أزمة الكهرباء في القطاع مشكلة عميقة، تزيد من تكبيل أنشطة الإنتاج، وتعطل الحياة المعيشية للمواطنين، كانت تتقلص ساعات توافر الكهرباء إلى 6 ساعات، وأحياناً ينقطع تيارها لأيام، وتعرض أكثر من 97 في المائة من منازل غزة إلى مشكلات انقطاع الكهرباء خلال 2018 (تقرير جهاز الإحصاء الفلسطيني) لأنّ المصدر الرئيسي للكهرباء إسرائيل، ولا تكفي خطوط الإمداد الكهربائي المصري لسدّ حاجات القطاع المكتظ سكانياً، فضلاً عن مشكلات هيكلية في قطاع الكهرباء والتي تقام شبكاتها فوق سطح الأرض (ويؤدي ذلك إلى سهولة إتلافها بأيّ هجوم عسكري).
وبحسب شركة توزيع الكهرباء، تضررت في العدوان الأخير 6 خطوط كنتيجة للضربات العسكرية، وتقدر خسائره بملايين الدولارات، فضلاً عن تبعات انقطاع الكهرباء اقتصادياً فإنّها تعطل شبكات المياه والصرف وتعطل الأنشطة الإغاثية والعلاجية الضرورية.
كما شملت العمليات العسكرية استهداف المجمعات التجارية ومصانع بالمنطقة الصناعية بغزة، وبعض المستشفيات والمؤسسات الصحية، وتعطل مختبر كورونا الرئيسي بعد غارات إسرائيلية استهدفت مبنى مجاوراً.
تراهن إسرائيل على أنّ الإضرار بالقدرات الاقتصادية يثير غضب القوى الاجتماعية تجاه المقاومة، لكنّ الحرب أثبتت رهانات إسرائيل الخاطئة
وقد تعرض القطاع الصحي بشكل عام إلى تدهور نتاج الحصار، والذي يحد من تجديد الأدوات والمعدات اللازمة. ويبلغ عدد المستشفيات بالقطاع 80 مستشفى، وهي محدودة الإمكانيات، كما استهدفت خلال العدوان مؤسسات تعليمية وإعلامية.
ويتضح من تكثيف الهجوم على المؤسسات التجارية والاقتصادية، أنّ الضغط على سكان القطاع، ومن ضمنهم المقاومة، ليس بالاستهداف العسكري وحده، إذ تراهن إسرائيل على أنّ الإضرار بالقدرات الاقتصادية يثير غضب القوى الاجتماعية تجاه المقاومة، لكنّ الحرب أثبتت رهانات إسرائيل الخاطئة، وربما على العكس من ذلك، لم تتأثر حالة التضامن الاجتماعي والوطني، رغم الضغوط العسكرية والاقتصادية، وربحت المقاومة سياسياً ووطنياً رغم التضحيات، بل برزت حالة تضامن تجاوزت غزة، إلى أراضى فلسطين التاريخية، لتظهر بوضوح بسالة الفلسطينيين، ودفاعهم عن حقوقهم، وأولها رد العدوان.
وأظهرت المناطق التي تقع تحت سيطرة الاحتلال، قدرة على الفعل، نشطت الحركة الاجتماعية في التظاهرات والمسيرات، ووصلت ذروتها في إضراب ناجح ومبهر، عبّر عن لحمة جمعت شمل الفلسطينيين، وتجاوزت حواجز سياسية واجتماعية، وجدران الفصل العنصري والحواجز الأمنية، وتقسيمات أراد بها الاحتلال، ترسيخ حالة تفسخ اجتماعي، وانقسام سياسي بين السلطة في رام الله وقطاع غزة من جانب، وبين سكان أراضي 48 المحتلة، من جهة أخرى، وهم الذين خاضوا معركة مقاومة التهجير والإخلاء واستدعوا تضامن الشعب الفلسطيني في غزة ورام الله، وخاض أهالي الناصرة واللدّ والقدس وغيرها من مناطق عربية سلسلة تظاهرات، وإضراباً عاماً كإحدى آليات المقاومة.
وشكل نجاح الإضراب أحد ملامح إطار وطني جامع لكلّ الفلسطينيين يمكن أن يتشكل، وواجهت الجماهير العربية بالأراضي المحتلة بشجاعة تهديدات أمنية واعتقال أكثر من 1550 شخصاً، وأدوات ضغط بهدف افشال الإضراب، منها إغراءات مالية، وعواقب اقتصادية، كالتهديد بالفصل وخصم الرواتب، وهذا يشير إلى إصرار في مواجهة سياسات الفصل. ولعبت لجنة المتابعة العربية العليا، دوراً مركزياً في الحراك، حين صوتت أغلبيتها لصالح قرار الإضراب ونسقت قبلها جهودها لمواجهة التهجير والاستيلاء على المنازل.
ربح الشعب الفلسطيني، واختبر قدراته الهائلة، في معركته الأخيرة رغم كلّ التضحيات والخسائر، وأعطى درساً لإسرائيل بأنّ الضغوط الاقتصادية والحصار الاقتصادي ليسا بالضرورة أداة إذعان بل ربما تكون أداة مقاومة.