أدخلت الأزمة الاقتصادية في تونس آلاف المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في نفق التعثر المالي، إذ تفاقم عدد الحالات المنظورة أمام القضاء أو التي انتهى بها الأمر خلف قضبان السجون بسبب الشيكات من دون رصيد، إذ أوصدت 130 ألف شركة أبوابها معلنة الإفلاس النهائي، منذ بداية جائحة فيروس كورونا مطلع عام 2020، وفق بيانات رسمية.
ويخلّف تصاعد قضايا الشيكات من دون رصيد والملاحقات القاضية، مآسي اجتماعية لآلاف صغار المستثمرين، وسط دعوات إلى إصدار عفو رئاسي عن أصحاب هذه القضايا وكف الملاحقات القضائية ضدهم مع مساعدتهم على العودة إلى النشاط الاقتصادي.
وتشير بيانات رسمية صادرة عن وزارة العدل حصلت عليها "العربي الجديد" إلى أنّ دوائر المحاكم فصلت خلال السنة القضائية 2019-2020 في 145.59 ألف قضية تعثر. وسجلت تونس مؤخراً، حادثة مأساوية بغرق عائلة مكونة من 4 أفراد (الأب والأم وطفلين) كانت تنوي الهجرة في إطار غير نظامي إلى إيطاليا، بعدما عجز الأب الذي كان يدير شركة صغرى في قطاع النقل على سداد شيكات حررها من أجل تسيير مؤسسته.
وتنص المادة 411 من قانون التجارة على أنه يعاقب بالحبس لمدة خمس سنوات وبغرامة تعادل 40% من مبلغ الشيك أو من رصيد الحكم. وللمرة التاسعة على التوالي، توجه الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة لرئيس الجمهورية قيس سعيد تطالبه بإصدار عفو ضد المحالين إلى المحاكم والمسجونين في قضايا الشيك من دون رصيد وتغيير القوانين التي يحاكم على أساسها المستثمرون المتعثرون مالياً.
وتكشف أرقام الجمعية التي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها عن وجود أكثر من 8 آلاف مستثمر في السجون وفرار 10 آلاف آخرين من الملاحقين في قضايا إصدار شيكات من دون رصيد إلى جانب إعلان 130 ألف مؤسسة صغرى ومتوسطة لإفلاسها من إجمالي 740 ألف مؤسسة مصنفة ضمن هذه النوعية من الشركات .
ويمثل المستثمرون المتعثرون ماليا النزلاء الجدد لسجون تونس، في وقت تنظر دوائر المحاكم في أكثر من مليون ونصف قضية شيك من دون رصيد، بحسب رئيس الجمعية الوطنية للمؤسسات الصغرى والمتوسطة عبد الرزاق حواص.
وقال حواص، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إن صغار المستثمرين تحولوا إلى ضحايا لقانون الشيكات، مشيراً إلى أنّ أصحاب الشركات الصغرى والمتوسطة يعتمدون على الشيك كوسيلة مالية رئيسية لتسيير أعمالهم والتزاماتهم، بسبب عدم قدرتهم على الحصول على تسهيلات مالية من البنوك.
وأضاف أنّ الشركات الصغرى والمتوسطة أكثر المؤسسات تضرراً من الجائحة الصحية، إذ أوصدت الآلاف منها أبوابها ولن تتمكن مجدداً من العودة إلى الدورة الاقتصادية، مرجحاً أن تتصاعد موجة تصفية الأعمال في هذا الصنف من الشركات في غياب الدعم الحكومي والحلول القانونية لدرء شبح السجن عن المستثمرين.
وأفاد بأنّ الجمعية وجهت رسائل إلى عدة السلطة عبر قنوات رسمية من أجل بحث حلول سريعة تحمي المستثمرين وعائلاتهم من التشتت والسجون، غير أنّ هذه الدعوات لم تجد صدى حتى الآن.
وأكد حواص أنّ أكثر من 570 ألفاً بين أشخاص طبيعيين ومعنويين (شركات) مصنّفون لدى البنك المركزي على أنّهم متعثرون، مما يعني أنّهم مجرمون، وذلك بسبب إصدار شيكات من دون رصيد.
وفي تقرير لمكتب الاستشارات "إرنست أند يونغ"، فإن 63% من المؤسسات الصغرى والمتوسطة ستندثر بعد جائحة كورونا، مشيراً إلى أنّ العديد من المؤسسات التي بقيت صامدة بعد الأزمة الصحية لن تتجاوز السنتين، وذلك بحكم إقدام أصحابها على بيع ممتلكاتهم ومكاسب عينية لوضعها على ذمة مؤسساتهم، إلّا أنّ الإنتاجية شبه منعدمة، وهو ما يرجح إمكانية إعلان إفلاسها في ظرف سنتين.
وقال بسام بن خليفة، وهو صاحب مؤسسة متوسطة، إنّ صغار المستثمرين يخوضون معركة البقاء والإفلات من كمين الشيكات، مؤكداً أنّ أغلب الشركات الصغرى والمتوسطة تفقد توازنها المالي بمجرد عدم القدرة على سداد 4 أو 5 شيكات.
وأضاف بن خليفة لـ"العربي الجديد" أنّ صغار المستثمرين ضحايا ما وصفه بالقمع المالي، مؤكداً أنّ دورة سداد الشيكات تنتهي سريعاً إلى دوائر المحاكم، فضلاً عن الخطايا المالية التي تسلط عليه.
وانتقد عدم تقديم البنوك تسهيلات للمستثمرين الصغار لمساعدتهم على تفادي التعثر المالي، معتبراً أنّ الجهاز المصرفي جزء من آلة القمع المسلطة على الشركات الصغرى والمتوسطة التي تشكل 95% من النسيج الاقتصادي في البلاد.
وطالب بن خليفة بضرورة تطوير التشريعات وحماية المستثمرين من القوانين المتخلفة التي تسلب حرية أصحاب المؤسسات لأسباب غالبا ما تكون خارجة عن إرادتهم، بما في ذلك الأسباب القاهرة على غرار الجائحة الصحية العالمية.
واعتبر أنّ السجن في قضايا الشيك من علامات التخلف الاقتصادي للدولة، مشيرا إلى أنّ كلّ البلدان المتقدمة تجاوزت هذه القوانين إلى إجراءات أخرى أكثر مرونة تحافظ على النسيج الاقتصادي والرصيد البشري من أصحاب المشاريع.
وبحسب بيانات رسمية صادرة عن مصالح تطوير ومراقبة أنظمة وسائل الدفع في البنك المركزي، يتداول التونسيون 26 مليون صك بنكي في السنة، ما يمثل 45% من مجموع المعاملات مقارنة بوسائل الدفع الأخرى بقيمة تداول تفوق 100 مليون دينار (حوالي 34.5 مليون دولار). ووصلت نسبة الشيكات المرفوضة إلى 4% بعد جائحة كورونا مقابل 2% قبل الأزمة الصحية.
كما تشير بيانات صادرة عن وزارة العدل إلى تسجيل زيادات سنوية في عدد قضايا الشيكات، إذ كانت تبلغ نحو 120 ألف قضية عام 2014، لتزيد إلى 173 ألفاً خلال السنة القضائية 2016/2017، ثم إلى 193 ألف قضية خلال العام القضائي 2017/2018.
وسبق أن قال سفير الاتحاد الأوروبي في تونس، بتريس برغاميني، في تصريح لصحيفة "لوموند" الفرنسية عام 2019، إنّ صغار المستثمرين في تونس ضحايا اقتصاد الريع الذي تديره كبرى العائلات المالية والمنتمية إلى منظمة رجال الأعمال.
وأضاف برغاميني أنّ "التوزيع العادل للثروة بين التونسيين محل اهتمام كبير لمنظمات تونسية وأجنبية، حيث انتقدت جل المنظمات التي اشتغلت على هذا الملف احتكار فئة قليلة من التونسيين للثروة وتحكم العائلات الاقتصادية في السوق، ما تسبب في إقصاء المؤسسات الصغيرة وعدم تمكينها من الموارد والقروض المالية حتى تكبر".
وفي السياق، قال الخبير المالي التونسي محمد منصف الشريف لـ"العربي الجديد"، إن مشاكل الدفع بالشيكات في قطاع الأعمال ليست بالحديثة، حيث أجرت الحكومة في فترة ما قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011 العديد من التعديلات من أجل الحد من مخاطر التعامل عبر الصكوك البنكية وتجنّب حبس المستثمرين أو المواطنين الذين يحررون شيكات دون رصيد وتمكينهم من فرص للتسوية.
لكنّ تسارع وتيرة الأحداث السياسية والاقتصادية على مدى عقد من الزمن وتداعيات جائحة كورونا زادت الأمر تعقيداً، وفق الشريف، معتبراً أنّ الحلول المالية التي طرحتها الحكومات المتعاقبة لم تكن مواكبة لحجم الضرر أو الضربات التي تلقاها اقتصاد البلاد، وهو ما يفسّر تفتت نسيج المؤسسات الصغرى والمتوسطة الذي استغرق بناؤه أكثر من 20 عاماً.
وأضاف أنّ إجراءات المرافقة للشركات الصغرى والمتوسطة التي جرى الإعلان عنها في أكثر من مناسبة لفائدة هذا الصنف من المستثمرين مرتبطة أساساً بتجاوب البنوك وقدرة القطاع المصرفي على توفير السيولة، وهو ما يفسّر عدم انتفاع المعنيين بها بالقدر الكافي.
وتابع أنّ البنوك لا تجازف بمرافقة مستثمرين مصنفين لدى البنك المركزي في دائرة الخطر، داعياً إلى إجراء مراجعات قانونية شاملة في هذا المجال لتجنّب السقوط السريع للمؤسسات وأصحابها في دائرة التعثر وعدم القدرة على سداد الالتزامات التي تتسارع تبعاتها في وقت وجيز، مقابل حاجة المؤسسات لسنوات طويلة للبناء وإيجاد موضع قدم داخل السوق.