صراع الطاقة يتأجج في "شرق المتوسط"... تحركات لترسيم الحدود بين تركيا وسورية تقلب الموازين

02 يناير 2025
أردوغان خلال تدشين سفينة تنقيب رابعة بنتها تركيا في ميناء مرسين، 9 أغسطس 2022 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تسعى تركيا لترسيم حدودها البحرية مع سوريا في البحر المتوسط لتحديد مناطق التنقيب عن النفط والغاز، بعد اتفاقها مع ليبيا في 2019، مما أثار احتجاجات دولية.

- أثارت نية تركيا ردود فعل قوية من اليونان وقبرص، اللتين اعتبرتا الاتفاق المحتمل غير قانوني، بينما لم تحدد مصر موقفها بعد، وسط تقاربها مع تركيا.

- يتفاقم الصراع في شرق المتوسط بسبب التقديرات بوجود كميات هائلة من الغاز والنفط، مما يدفع الدول المطلة لتكثيف جهودها لاستكشاف هذه الثروات.

تتجه موازين الصراع على ثروات الطاقة في البحر المتوسط للتبدل تماماً في الفترة المقبلة، مع دخول سورية المعادلة، عقب إعلان تركيا سعيها إلى ترسيم حدودها البحرية بين البلدين في مياه "المتوسط"، مؤكدة أن هذه الصفقة ستسمح للبلدين بتحديد مساحات نفوذهما للتنقيب عن النفط والغاز. ولطالما كانت مياه البحر المتوسط مسرحا لصراع ترسيم الحدود خلال السنوات القليلة الماضية، لتأخذ شكل جبهات بين دول عربية وأوروبية، على رأسها مصر واليونان، في مواجهة تركيا، لتباغت أنقرة هذا التحالف باتفاق لترسيم الحدود مع ليبيا في العام 2019، وهو ما أثار غضب أثينا وعواصم أوروبية وعربية، على رأسها القاهرة، قبل أن يتوارى الصراع في ظل تقارير مصرية تركية أخيراً، لكن أنقرة بدت أنها تباغت الجميع هذه المرة من الشرق بتوجهها نحو اتفاق ترسيم مع دمشق.

قبل أيام قليلة، خرج وزير النقل والبنية التحتية التركي عبد القادر أورال أوغلو ليعلن أن بلاده تهدف إلى ترسيم حدودها البحرية مع سورية في البحر المتوسط بعد تشكيل حكومة دائمة في دمشق، مشيراً إلى أن "هذه الصفقة ستسمح للبلدين بتحديد مساحات نفوذهما للتنقيب عن النفط والغاز"، وأي اتفاق مستقبلي في هذا المجال "سيكون متوافقاً مع القانون الدولي". وجاء الرد الوحيد الرسمي على الإعلان التركي على لسان وزير النقل في الحكومة الانتقالية المؤقتة بسورية بهاء الدين شرم، هذا الأسبوع، بأن "ترسيم الحدود ليس من اختصاص الحكومة الحالية"، تاركاً الأمر على أهميته وما يمكن أن يتخلله من تفاوض وتحكيم للزمن، ريثما تنقضي فترة الحكومة المؤقتة، مطلع مارس/ آذار المقبل، ويتم تشكيل حكومة انتقالية معترف بها وشرعية.

ورغم أن وزير النقل التركي أشار إلى أن ترسيم الحدود "مجرد مقترح" ومؤجل ريثما تتشكل حكومة وقيادة سورية معترف بها، إلا أن دولاً عدة استقبلت التصريحات التركية بشأن ترسيم الحدود البحرية مع سورية باحتجاج ورفض واضحين.

وأعلنت اليونان وقبرص في بيانين منفصلين أن الاتفاق المحتمل بين تركيا وسورية لترسيم حدود مناطقهما الاقتصادية الخالصة في البحر المتوسط سيكون غير قانوني وينتهك حقوق قبرص السيادية. وقال المتحدث باسم الحكومة القبرصية كونستانتينوس ليتيمبيوتيس لوكالة الأنباء القبرصية إن "أي نية لإبرام اتفاق بين تركيا وسورية بصفتهما دولتين لهما سواحل متاخمة يجب أن تستند إلى القانون الدولي، ولا سيما القانون الدولي البحري الوارد في اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، ويجب أن تؤخذ بعين الاعتبار حقوق جمهورية قبرص في المنطقة".

وشدد البيان على أن "نيقوسيا تراقب تطور الأحداث عن كثب وتقيّم الوضع بشكل مستمر منذ اللحظة الأولى"، مؤكداً أن أي محاولة للطعن أو التأثير أو إهمال الحقوق السيادية لقبرص تشكل انتهاكاً للقانون الدولي، وستتخذ قبرص جميع الإجراءات الممكنة على الصعيدين الدولي والأوروبي، وأشار إلى التنسيق مع اليونان لإطلاع قادة الاتحاد الأوروبي على التحركات المحتملة لتركيا، والحصول على الدعم الأوروبي.

من جانبها، وصفت وزارة الخارجية اليونانية الاتفاق البحري المقترح بين تركيا وسورية بـ"غير الشرعي". واعتبرت وزارة الدفاع الوطني اليونانية احتمال إبرام اتفاق بين تركيا وسورية "خطوة غير ودية" من شأنها أن تؤثر في العلاقات اليونانية التركية.

بيد أن موقف مصر لم يتضح بعد، بينما تشهد القاهرة مأزقاً كبيراً، لا سيما بعد التقارب الحاصل مع أنقرة أخيراً، ويبدو أن موقفها سيكون أكثر تعقيداً، وفق محللين، لا سيما في ظل أزمة الغاز التي تشهدها الدولة بين الحين والآخر نتيجة تناقص الإنتاج من حقل ظهر في البحر المتوسط واللجوء إلى الاستيراد من إسرائيل وأسواق الغاز المسال أخيراً.

على الجانب السوري، وفي أول رد رسمي على الطرح التركي، كشفت مصادر من وزارة النقل بالحكومة السورية الحالية لـ"العربي الجديد"، أن وزير النقل بهاء الدين شرم أكد، الاثنين الماضي، خلال لقائه مع فاعلين في قطاع النقل البحري في مدينة طرطوس الساحلية، غربي سورية، أنه "ستتم إعادة النظر بكل العقود الاستثمارية في المرافئ السورية من خلال لجنة خبراء قانونيين"، مؤكداً أن "ترسيم الحدود ليس من اختصاص الحكومة الحالية".

بينما تتوافق آراء اقتصاديين وقانونيين سوريين وأتراك على أنه من حق تركيا وسورية ترسيم الحدود البحرية، وذلك أمر سيادي وخاص بهما طالما يتم ضمن القوانين الدولية ويضمن حقوق البلدين. ويصف الخبير الاقتصادي السوري محمد حاج بكري دعوة تركيا بـ"المهمة لكنها في غير وقتها"، إذ لا يحق ربما لحكومة تسيير الأعمال أن تفاوض أو توقع على اتفاقات ترسيم الحدود، والأهم برأي حاج بكري أن حكومة النظام المخلوع كبلت البلاد باتفاقات مع شريكتي بشار الأسد في الحرب على السوريين إيران وروسيا.

وأشار إلى أنه في مطلع عام 2021 وقعت وزارة البترول والثروة المعدنية في حكومة بشار الأسد عقدين مع شركتي "كابيتال ليميتيد" و"إيست ميد عمريت" الروسيتين، حيث منحت "إيست ميد عمريت" عقد استكشاف في البلوك (2) الممتد من شمال طرطوس إلى جنوب بانياس على مساحة 2190 كيلومتراً، ومنحت الشركة الأخرى عقداً للتنقيب حصرياً عن البترول وتنميته في البلوك البحري (1) في المنطقة الاقتصادية الخالصة لسورية في البحر المتوسط مقابل ساحل محافظة طرطوس حتى الحدود البحرية الجنوبية السورية اللبنانية على مساحة 2250 كيلومتراً مربعاً، والتعاقد لمدة 25 عاماً قابلة للتمديد لمدة خمس سنوات، معتبراً أن إلغاء أو التفاهم على هذه الاتفاقات، أولوية بالنسبة لسورية اليوم، كما بقية الاتفاقات المتعلقة بالثروات: نفط، فوسفات وغاز.

لكن رئيس الائتلاف الوطني السوري السابق نصر الحريري قال لـ"العربي الجديد"، إن "سورية خلال الـ14 عاماً الماضية لم تواكب التطورات والمسوحات البحرية المتعلقة بالنفط والغاز الموجودة في مياهها الإقليمية، كما فعلت الدول المجاورة أو المطلة على البحر المتوسط، ونعلم جميعاً أن حوض المتوسط فيه كمية هائلة من الغاز إضافة للنفط، لذا نرى الاهتمام والسعي والصراعات".

وأضاف الحريري أن من حق سورية بواقع المعاناة والخراب والحاجة للطاقة والمال، أن تفكر باستثمار جدي وكبير في مياهها الإقليمية، كما أن تركيا الجارة من أهم الدول التي تربطها بسورية علاقات استراتيجية وتعاون مستقبلي واعد، ولكن مرجعية أي اتفاق ستكون وفق المصالح المشتركة والقانون الدولي، وبدء التفاوض أمر إيجابي وسيأخذ وقتاً ريثما تكون قد تشكلت حكومة سورية شاملة وممثلة للسوريين ومن صلاحياتها إبرام مثل هذا الاتفاق.

وفي حين تشدد العديد من دول البحر المتوسط على ضرورة أن يكون الحكم في ترسيم الحدود البحرية اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، تقول تركيا التي لم توقع على الاتفاقية إنها تستند للقانون الدولي. وتعتبر الاتفاقية التي تم إقرارها عام 1982 أن كل دولة تمتلك ما يصطلح عليه بـ"منطقة اقتصادية خالصة" لمسافة 200 ميل بحري فقط، وفي حالة شرق المتوسط تكون الدول ذات الحدود البحرية المشتركة هي التي بينها مسافات أقصر.

وسورية ليست موقِعة على معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار، ورفضت في السابق ترسيم حدودها مع لبنان. وبعد الحرب السورية عام 2011، أصبحت دمشق خارج المعادلة تقريباً، لتعود للمشهد بعد دعوة تركيا للتفاوض أخيراً.

وقال المحلل الاقتصادي التركي يوسف كاتب أوغلو لـ"العربي الجديد"، إن "تركيا لها الحق الطبيعي في أن تكون لديها اتفاقات مع الدول المطلة على البحر المتوسط، وتركيا لديها أكبر شواطئ في شرق المتوسط بطول نحو 1100 كيلومتر، وبعد اكتشاف الثروات الهائلة من الغاز والنفط تحت مياه المتوسط، فإن جميع الدول المطلة على شرقي المتوسط لديها خطط استراتيجية لاستكشاف واستثمار تلك الثروات، وبالتالي باتت مسائل ترسيم الحدود البحرية بين تلك الدول أولوية قصوى".

وأضاف أوغلو أن "هناك محاولات من بعض الدول، اليونان وقبرص وفرنسا وإسرائيل بشكل خاص، لتهميش الدور التركي أو خلق مشاكل خلال ترسيم الحدود مع ليبيا أو أثناء المحافظة على حقوق قبرص التركية"، وأشار إلى أهمية ما تقوم به تركيا من مبادرة للإسراع بما يجب فعله من اتفاقات ثنائية مع سورية باعتبارهما دولتين مطلتين على المتوسط، و"لا يحق لأي دولة الاعتراض على الدول المتشاطئة والمتجاورة، لأنه حق سيادي وطبيعي".

ولفت إلى إقصاء تركيا عن مؤتمرين عقدا حول غاز المتوسط في أثينا عام 2017 وفي القاهرة عام 2019، مضيفا أن "ما تقوم به تركيا في ما يسمى الوطن الأزرق، هو حقها الذي لا تتنازل عنه، وستسلك الطريق مع سورية كما فعلت مع ليبيا عام 2019 ولن تعير اهتماماً للاعتراضات طالما أنها تتعامل وفق القانون ومن منطلق المصالح المشتركة".

بدوره، قال رئيس تجمع المحامين السوريين الأحرار غزوان قرنفل إن "المفاوضات المقبلة بين سورية وتركيا لا بد أن تنطلق من الحقوق والعلاقات الطيبة للترسيم الأولي الذي لا بد أن يكون لاحقاً وفق القوانين الدولية ومبادئ الأمم المتحدة، ومحاولة الابتعاد عمّا نراه من صراعات واستقطاب لدول شرقي المتوسط، لأن النزاع الحالي بين دول شرق المتوسط له أسباب تاريخية واقتصادية وجغرافية، لكن العامل السياسي غالب على النزاع الذي يأخذ شكل التصعيد والتعقيد إلى ما قبل المواجهة بقليل".

ويتفاقم الصراع بين الدول المطلة على المتوسط، خاصة بعد مطامع إسرائيل وسطوتها على حقوق الفلسطينيين واللبنانيين والخلاف على حدود قبرص اليونانية والتركية، والتداخل بالحدود مع تركيا التي أُبعدت عن منتدى غاز المتوسط. ونشب ذلك الصراع بعدما قدَّرت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية في العام 2010 احتمال وجود ما يقرب من 122 تريليون متر مكعب من مصادر الغاز غير المكتشفة في حوض شرق المتوسط قبالة سواحل سورية ولبنان وفلسطين المحتلة وقبرص، بالإضافة إلى ما يقارب 107 مليارات برميل من النفط القابل للاستخراج.

وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تبقى في إطار التقديرات، إلا أن ما عززها هو اكتشاف العديد من حقول الغاز في منطقة شرق البحر المتوسط. وبدأت عمليات الاستكشاف بالازدياد بعد نجاح التحالف الذي تقوده شركة "نوبل إنرجي" الأميركية في اكتشاف حقل "تمار" في العام 2009 قبالة سواحل فلسطين المحتلة، ومع توالي الاكتشافات أصبحت دول المنطقة أكثر اهتماماً بتكليف الشركات الأجنبية بالقيام بأعمال الاستكشاف.

المساهمون