في محاولة للتصدي لمعدل تضخم وصل إلى أعلى مستوياته في أربعة عقود، قررت لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، المسؤولة عن وضع السياسة النقدية في الولايات المتحدة، رفع سعر الفائدة للمرة الأولى منذ عام 2018 بنسبة ربع بالمائة، إلا أن البعض ما زال يشكك في قدرة البنك المركزي الأكبر في العالم على كبح جماح التضخم، الذي وصل في فبراير/شباط الماضي إلى 7.9%، وفي نفس الوقت تجنب السقوط في فخ الركود.
ورغم أن المعدل الذي تم تسجيله الشهر الماضي لم يكن بعيداً عن نظيره في الشهر السابق، وكان 7%، إلا أن أغلب المحللين رآه شديد الارتفاع، خاصة أنه لم يتأثر إلا بالقليل من الارتفاعات القوية التي شهدتها أغلب السلع والمعادن والحبوب في أعقاب اقتحام القوات الروسية الأراضي الأوكرانية.
ومع تصاعد وتيرة العمليات في أوكرانيا، انعكست بصورة سريعة ارتفاعات الأسعار العالمية للطاقة في السوق الأميركية، حين اقترب سعر النفط من خام برنت من 140 دولاراً للبرميل، حيث سجل متوسط سعر الغالون من وقود السيارات المعتدل، وهو أقل أنواع الوقود جودة في أميركا وأرخصها، يوم الجمعة أعلى مستوى في تاريخه (4.331 دولارات)، مرتفعاً بأكثر من 60 سنتاً في أسبوع واحد، قبل أن يتراجع قليلاً إلى 4.305 دولارات بعدها بأيام، مع انخفاض سعر خام برنت تحت المائة دولار للبرميل.
ولم يقتصر الأمر على سعر وقود السيارات، وإنما امتدت حالة "جنون التضخم" إلى كل السلع التي يتم نقلها بالسيارات أو السفن أو القطارات أو الطائرات، وإلى كل الخدمات التي تستخدم وسائل المواصلات، لتصيب أغلب نواحي الحياة للمواطن الأميركي، الأمر الذي وضع البنك الفيدرالي ورئيسه جيرومي باول في مرمى نيران الاتهامات بالعجز، أو بالتأخر في محاربة التضخم في أحسن الأحوال.
ويواجه باول بالفعل تحدياً كبيراً يتمثل في وقوعه بين مطرقة التضخم، وسندان الركود إذا عجل برفع الفائدة قبل الأوان.
وفي لقاء مع قناة بلومبيرغ الإخبارية، اعتبر ريان سويت، مسؤول أبحاث السياسة النقدية لدى مركز الأبحاث موديز أناليتيكس، أن بيان باول يوضح "توجه الفيدرالي لمضاعفة جهوده في التعامل مع التضخم"، مؤكداً أنها "ستكون دورة حادة من التقييد (أي رفع الفائدة)"، مشيراً في الوقت نفسه إلى عدم تأكده من قدرة مسؤولي البنك على إحداث "الهبوط الآمن" في الظرف الحالي.
ورغم محدودية رفع الفائدة الذي اتخذ قراره أعضاء مجلس إدارة البنك الفيدرالي الأربعاء، حيث لم يتجاوز ربعا بالمائة، إلا أنه مثل نقطة تحول فارقة، حيث أظهر للمرة الأولى أن الفيدرالي بدأ لتوه استخدام أعتى أسلحته، خاصة مع إشارة رئيس البنك بعد اتخاذ القرار إلى إمكانية رفع الفائدة ست مرات أخرى، كل منها بربع بالمائة، قبل نهاية العام الحالي، بالإضافة إلى ثلاث رفعات أخرى بنفس القدر في العام التالي، وصولاً إلى 2.75% بنهاية عام 2023، وهو أعلى معدل فائدة منذ الأزمة المالية العالمية في 2008.
ورغم أهمية عنصر استقرار الأسعار، الذي يسعى لتحقيقه في ظل تضخم يزداد اشتعالاً مع تطورات الحرب في أوكرانيا، لا يغفل الفيدرالي أهمية الحفاظ على مستويات التشغيل المرتفعة وإبقاء معدل البطالة بالقرب من أدنى مستوياته في نصف قرن، والبالغ 3.5%.
ويهدد رفع معدلات الفائدة استمرار الشركات في التوسع وزيادة إقبالها على توظيف المزيد من العمالة، وهو ما يؤدي بدوره إلى تراجع معدلات تزايد الأجور، فيقل الطلب، ويقترب الاقتصاد من الركود.
واعتبرت سيمونا ميكوتا، كبيرة الاقتصاديين لدى شركة الاستثمار ستيت ستريت غلوبال، أن البنك الفيدرالي بالغ في رد فعله بالإعلان عن "كل تلك الرفعات المقررة للعام الحالي"، مشيرة إلى أن أغلب الاقتصاديين راجعوا معدلات النمو المرتفعة التي قدروها بداية العام، بعد تصاعد الأزمة الأوكرانية.
وفي لقاء على قناة "سي إن بي سي" المتخصصة في أخبار الاقتصاد والأسواق، قالت ميكوتا إن "أحداً لا يمكنه التأكد من حالة الاقتصاد خلال الفترة القادمة"، متوقعة ألا يقدم البنك على إتمام كل تلك الرفعات التي أشار إليها.
وأضافت ميكوتا أن "اختيارات الفيدرالي في التعامل مع مسألتي التضخم والركود لم تكن جيدة قبل الحرب، إلا أن الحرب جعلتها أكثر تعقيداً"، واصفة التطورات التي نتجت عن الأزمة بأنها "صدمة تضخمية تسببت فيها عوامل خارجة عن سيطرة البنك الفيدرالي".
وبخلاف رفع معدلات الفائدة، ما زال الفيدرالي مستمراً في تقليص مشترياته الشهرية من السندات الأميركية، ضمن خطوات إنهاء برنامج التيسير الكمي الذي بدأه البنك في أعقاب ظهور فيروس كوفيد-19 وانتشاره في الأراضي الأميركية خلال الربع الأول من عام 2020.
ومطلع العام الحالي، أكد جيروم باول نية البنك تقليص حجم ميزانيته، التي تجاوزت 9 تريليونات دولار بمشتريات البنك خلال العامين الأخيرين، رغم أنها كانت أقل من خمسة تريليونات دولار نهاية عام 2019.
وتهدد إجراءات البنك الفيدرالي تلك، أسواقَ الأسهم والسندات والعقارات، بسبب ما يتوقع حدوثه من ارتفاع لمعدلات الفائدة طويلة الأجل.
ويرى المحللون أن نجاح الفيدرالي في القضاء على التضخم، وفي نفس الوقت حمايته من الوقوع في براثن الركود، يضمنان استمرارية نمو الاقتصاد بمعدلات مرتفعة على مدار السنوات القادمة.
ولم ينف دونالد كون، المسؤول السابق بالبنك الفيدرالي، إمكانية الوصول إلى الهبوط الآمن، إلا أنه أكد في نفس الوقت أن احتمالات الدخول في ركود، يتراجع معه الطلب، ويرتفع فيه معدل البطالة، ما زالت موجودة".