على الرغم من أن كل السيناريوهات تبدو حتى الآن مفتوحة في مفاوضات بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، بشأن التوصل إلى اتفاق للترتيبات التجارية والإجرائية بعد الانفصال من عدمه، إلا أن أسواق الصرف باتت ترجح احتمال التوصل إلى ترتيبات تجارية بين الطرفين قبل نهاية العام الجاري، بدليل ارتفاع سعر صرف الجنيه الإسترليني مقابل العملات الرئيسية أمس الاثنين بنسبة 1.4%، كما ارتفعت العملة البريطانية كذلك مقابل كل من الدولار واليورو في التعاملات الصباحية التي جرت في لندن أمس، وفقاً لبيانات الأسواق التي تنشرها وكالة بلومبيرغ وفاينانشيال تايمز.
وحسب البيانات فقد ارتفع الإسترليني مقابل الدولار بنسبة 1.34% مقابل العملة الأميركية إلى 1.3401 دولار، كما ارتفع مقابل العملة الأوروبية إلى 1.10 يورو. ارتفع كذلك العائد على سندات السيادية البريطانية بنسبة 3 نقاط أساس مئوية إلى 0.20، وفي أسواق الأسهم ارتفع مؤشر الأسهم الأوروبية.
وجاء هذا التحسن في المؤشرات المالية البريطانية بعد تعليقات نشرتها "يورو نيوز"، تحدث فيها كبير مفاوضي الاتحاد الاوروبي ميشال بارنييه أمس الاثنين عن بعض التقدم في المحادثات مع لندن حول العلاقة التجارية المستقبلية بين الطرفين في مرحلة ما بعد بريكست، لكنه أشار إلى أن بعض الخلافات لا تزال قائمة وخصوصاً حول الصيد. وكذا جاء ترحيب رئيسة المفوضية الأوروبية بـ"تحرك" المفاوضات بشأن بريكست معتبرة ذلك "أمرا جيدا".
وجاء تعليق بارنييه عن وضع المفاوضات أمام ممثلي الدول الأعضاء في الاتحاد في بروكسل، فيما قررت بريطانيا والاتحاد الأوروبي مواصلتها المفاوضات لكن بدون تحديد مهلة أخرى، غير تلك التي تنتهي في الأول من يناير/كانون الثاني موعد حصول الطلاق بشكل نهائي.
وتشير ارتفاعات الأسهم وسعر صرف الإسترليني والعائد على السندات البريطانية إلى أن كبار المستثمرين أدخلوا في حساباتهم حدوث اتفاق تجاري، وإنه ربما سيتم في اللحظات الأخيرة قبل أعياد الكريسماس ويسبب أزمة في التصويت عليه من قبل البرلمانين الأوروبي والبريطاني بسبب عطلة أعياد الميلاد.
وكان المستثمرون يتخوفون قبل هذه التصريحات الإيجابية من حدوث هبوط حاد في سعر الإسترليني بحال حدوث انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي دون ترتيبات تجارية. وتعود هذه المخاوف إلى ثلاثة عوامل رئيسية كما يقول تحليل لموقع " باوند ستيرلنغ".
العامل الأول، احتمالات خفض بنك إنكلترا المركزي للفائدة المصرفية تحت الصفر والتي ستكون لأول مرة في تاريخه، والثاني تواصل هروب رأس المال من حي المال البريطاني الذي شهد منذ بريكست وحتى الآن هروب 1.2 تريليون جنيه إسترليني، حسب شركة "أيرنست آند يونغ" البريطانية لتدقيق الحسابات، والثالث تدهور معدل النمو الاقتصادي وتراجع أسعار الأسهم.
وبالتالي يرى محللون أن شراء الإسترليني في هذا الوقت الحرج يعد من الرهانات الخطرة التي ربما لن تقدم عليها المصارف وشركات الوساطة في أسواق الصرف، لولا أن لديها تأكيدات أن المفاوضات المتعثرة ستنتهي إلى توافق بين الطرفين والخروج بترتيبات مرضية لبريطانيا.
وحتى الآن تتعثر المفاوضات بين الطرفين بشأن الترتيبات التجارية فيما بعد الانفصال البريطاني النهائي عن أوروبا، حول ثلاث نقاط رئيسية وهي: قوانين المنافسة والحوكمة التي تحكم المعايير والإجراءات وحصص صيد الأسماك في المياه البريطانية بعد الانفصال الكامل في نهاية العام الجاري.
والتوصل لتسوية لهذه النقاط سيحدد مصير التجارة المشتركة بين بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي المقدر حجمها بنحو تريليون دولار. وبالتالي فإن حلها يعد حجر الزاوية في بناء الفضاء التجاري الذي تخطط بريطانيا له بعد الانفصال الكامل عبر اتفاقات الشراكة التجارية مع كبار الاقتصادات في العالم.
بالنسبة لموضوع صيد الأسماك، رغم أن صيد الأسماك يمثل نسبة ضئيلة من حجم الاقتصاد في كل من بريطانيا والكتلة الأوروبية، إلا أن بريطانيا تنظر له كموضوع سيادة على مياهها الإقليمية.
ويتركز الخلاف بين الطرفين، الأوروبي والبريطاني، حول الحصة المسموح بصيدها لكلا الطرفين بعد الانفصال، إذ بينما ترغب دول الاتحاد الأوروبي، خاصة فرنسا لصياديها السماح لهم بمواصلة الصيد في المياه البريطانية ترفض لندن ذلك. وبينما عرضت أوروبا على بريطانيا فرصة صيد 18% من الأسماك طلبت بريطانيا حصة 80%، وذلك في مقابل السماح للصيادين البريطانيين ببيع السمك بدول الاتحاد الأوروبي.
وتطلب بريطانيا من أوروبا حتى الآن مفاوضات سنوية حول الحصة المسموح لشركاتها صيدها في المياه البريطانية بعد الانفصال ضمن ملحق خاص في الاتفاقية يطلق عليه " ملحق صيد الأسماك" ينص على تقسيم صيد الأسماك بين الطرفين كبديل لنظام الحصص الحالي المعمول به ضمن قوانين الاتحاد الأوروبي، ولكن دول الاتحاد الأوروبي تعارض المفاوضات السنوية كما تعارض كذلك تضمين "الملحق الخاص بصيد الأسماك" في الاتفاقية النهائية للعلاقات بين الطرفين بعد الانفصال.
وتمثل مسألة دخول صيادي أوروبا للمياه البريطانية عقبة أمام المحادثات، حيث يحذر الاتحاد الأوروبي من أنه إذا منعت بريطانيا مراكب الاتحاد من دخول مياهها، فلن يُسمح للصيادين البريطانيين في المقابل بدخول أسواق الاتحاد الأوروبي لبيع بضاعتهم.
ويلاحظ أن بريطانيا نشرت فرقاطات تابعة للأسطول الملكي لحماية مياه الصيد البريطانية حال الخروج من الاتحاد الأوروبي بلا اتفاق. وهي خطوة وصفها وزير سابق من حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا بالخطوة "المهينة". واعتبر توبياس إلوود، وهو حالياً رئيس لجنة الدفاع في مجلس العموم، أيضاً الخطوة بأنها تمثل تهديداً "غير مسؤول" في تصريحات نقلها تلفزيون " بي بي سي".
بالنسبة للنقطة الخلافية الثانية الخاصة بقوانين حرية المنافسة، تتخوف أوروبا على أسواقها من بريطانيا. وتنوي بريطانيا التحرير الكامل لأسواقها وفتح 10 مناطق تجارة حرة خلال العام المقبل لجذب المستثمرين الأجانب، وهي مناطق ستمنح المستثمرين مزايا ضريبية وكذلك في الرسوم المنخفضة. وفي المقابل فإن أوروبا تريد لبريطانيا أن تحافظ على بعض القوانين الأوروبية بعد الانفصال وهو ما ترفضه الحكومة البريطانية.
أما نقطة الخلاف الثالثة، الخاصة بالمعايير والإجراءات بعد الانفصال، فقد اتفق الطرفان حتى الآن على الحفاظ بمعايير عالية بالنسبة لقوانين العمل والمناخ والضرائب والدعم الحكومي الخاص بالشركات والقطاع الخاص.
وعلى الرغم من أن بريطانيا تعهدت بعدم التراجع عن هذا المستوى من المعايير التجارية العالية، إلا أن الخلاف يدور حول أن بريطانيا لا ترغب في أن تكون قوانين الاتحاد الأوروبي هي القوانين المرجعية لشركاتها وأعمالها التجارية، لأن ذلك سيعني التحاكم بعد الانفصال لدى محكمة العدل الأوروبية في حال حدوث خلافات بين الطرفين.
وفي المقابل فإن دول الاتحاد الأوروبي ترغب في إنشاء لجنة مستقلة لمراقبة تطبيق المعايير الخاصة بهذه القضايا، بينما ترغب بريطانيا في الاستقلالية الكاملة عن أوروبا في تحديد إجراءات سوق العمل والمناخ والضرائب.
أما بالنسبة للدعم الحكومي للقطاع الخاص وقوانين المناخ بعد الانفصال، فإن هنالك اتفاقا على تضمين ذلك في كلا النظامين الأوروبي والبريطاني. لكن أوروبا ترغب في تأسيس آلية مراقبة تقوم بحظر أو معاقبة بريطانيا بشكل سريع في حال خروقاتها لاتفاقية الترتيبات التجارية بعد الانفصال بدلاً من اللجوء للمحاكم البريطانية.
وبالتالي فإن هنالك العديد من التفاصيل في النقاط الخلافية يرى أعضاء البرلمان البريطاني ضرورة تجاوزها في سبيل ترتيب علاقات تجارية سلسة مع أهم شريك تجاري لبريطانيا، خاصة أن اتفاقية الشراكة التجارية الضخمة التي كانت تتوقعها بريطانيا مع أميركا ربما ستتأخر إلى ما بعد تسوية الخلافات بين واشنطن وبروكسل.
وفي حال عدم التوصل لاتفاق بين الطرفين فإن التعامل التجاري سيخضع لإجراءات منظمة التجارة العالمية وربما ستحتاج بريطانيا إلى مفاوضات شاقة لإكمال الفضاء التجاري مع باقي دول العالم.