زيادة الرواتب قبل إلغاء الدعم في مصر

05 يونيو 2024
حي الدرب الأحمر في القاهرة، 28 مايو 2024 (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الحكومات المصرية تواجه تحديات اقتصادية مثل عجز الموازنة والحساب الجاري، مما أدى للاقتراض المتزايد. حكومة مصطفى مدبولي اعتمدت على بيع أو تأجير مناطق مثل رأس الحكمة لجذب تمويلات ضخمة لدعم الاقتصاد.
- صفقة رأس الحكمة جذبت استثمارات بأكثر من 50 مليار دولار، مما ساهم في استقرار الجنيه المصري وشجع على البحث عن فرص استثمارية جديدة لتعزيز الاقتصاد.
- الحكومة المصرية قررت تخفيض الدعم على الخبز والكهرباء وغيرها لمواجهة عجز الموازنة، مما أدى لزيادات في أسعار هذه السلع والخدمات، وسط تحديات اقتصادية تثير قلقاً بشأن الأمن الغذائي والاجتماعي.

ما زالت الحكومات المصرية المتعاقبة عاجزة عن إيجاد حلول حقيقية لأزمات الاقتصاد المزمنة، سواء تلك المتعلقة بعجز الموازنة المتزايد، أو عجز الحساب الجاري الذي لم يتوقف عن الارتفاع منذ عدة سنوات، الأمر الذي تسبب في تزايد عمليات الاقتراض، داخلياً وخارجياً، قبل أن تسيطر على المشهد أخيراً ما يمكن أن نطلق عليها اسم "سياسة رأس الحكمة".

مصطلح "سياسة رأس الحكمة" لم يظهر في كتب الاقتصاد ولا في تحليلات المتخصصين، وإنما أنبأتنا به حكومة مصطفى مدبولي حين قررت بيع، أو تأجير، أو منح حق انتفاع، بمنطقة رأس الحكمة لصندوق أبوظبي الاستثماري، على أمل الحصول على مليارات الدولارات التي كانت مطلوبة لتوفير الغذاء والدواء للمصريين، ولوقف انهيار عملتهم بعد خسارتها أكثر من ثلثي قيمتها على مدار ما يقرب من عامين.

سمحت الصفقة بالفعل بجذب أكثر من 50 مليار دولار، بصورة مباشرة وغير مباشرة، من الإمارات، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والاتحاد الأوروبي، وإن لم تصل هذه المليارات كاملة إلى حسابات البنك المركزي المصري حتى هذه اللحظة. وساهمت الصفقة أيضاً في استقرار سعر صرف الجنيه، بعد تخفيضه بصورة واضحة، أمام الدولار، الأمر الذي سهل استقطاب أكثر من عشرين مليار دولار، وفقاً للأرقام الرسمية الصادرة عن الحكومة المصرية، من الأموال الساخنة في سوقي الأسهم والسندات.

أعجب المسؤولون بـ"سياسة رأس الحكمة"، وبدا أن هناك "رأساً" في كل بقعة في أرض مصر يمكن التضحية بها كلما اقتضى الأمر، فبدأت السعودية تتفاوض على "رأس" جميلة، وبحثت قطر عن "رأس" أخرى يمكن شراؤها، واستمرت الإمارات ومن ورائها في البحث عن "رؤوس" معروضة للبيع، بينما كانت الصين قد وضعت يدها، بحكم ما اقترضناه منها، على بعض "الرؤوس الصغيرة"، في مناطق عدة، في بر وموانئ مصر.

ومع هذا التوجه، ورغم المليارات التي يتم إنفاقها بصورة بذخية على منشآت حكومية وقصور رئاسية واحتفالات وهمية لزوم ترسيخ الصورة الفرعونية، قررت الحكومة المصرية ومن يوجهها تخفيض المبالغ الموجهة لدعم الخبز والكهرباء والغاز والوقود، بحجة ارتفاع تكلفتها وتسببها في زيادة عجز الموازنة.

رفعت الحكومة المصرية في يناير/كانون الثاني الماضي أسعار الكهرباء المنزلية للمرة التاسعة منذ عام 2014، وكانت الزيادة الأخيرة بنسبة تتجاوز 20% لشرائح الاستهلاك الدنيا، رغم أن دعم الكهرباء في موازنة العام الماضي كان "صفراً"، وأصبح 2.5 مليار جنيه (53 مليون دولار) في الموازنة الجديدة للعام 2024-2025، التي أقرها البرلمان هذا الأسبوع. وارتفع سعر الكهرباء في مصر بنسبة 1038% منذ عام 2014، كما ارتفع سعر الغاز بنسبة تصل إلى 2400% خلال نفس الفترة.

موقف
التحديثات الحية

والأسبوع الماضي، قررت الحكومة رفع سعر رغيف الخبز المدعوم من 5 قروش إلى 20 قرشاً (الجنيه مائة قرش) اعتباراً من بداية شهر يونيو/حزيران الجاري، بنسبة زيادة تبلغ 300% على ما يقرب من 64 مليون مواطن، يوصف نصفهم بالفقر أو الفقر المدقع، وفقاً لمؤشرات البنك الدولي، منذ عدة سنوات، وقبل الانهيارات الأخيرة في سعر الجنيه مقابل الدولار، وما صاحبها من ارتفاعات جنونية في أسعار أغلب السلع والخدمات بالبلاد.

خصصت الحكومة 125 مليار جنيه (نحو 2.66 مليار دولار) في الموازنة الجديدة، التي يبدأ العمل بها مطلع شهر يوليو القادم، لدعم رغيف الخبز، وأقرت بسعيها للتخلص من الدعم تماماً وفقاً لاتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي. وأكد رئيس الوزراء توجه الحكومة لرفع سعر رغيف الخبز المدعوم لتخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة، بصورة تتناسب مع الزيادة الرهيبة في الأسعار.

وفي مارس/آذار الماضي، رفعت مصر أسعار الوقود وأسعار أسطوانة غاز الطهي، للمرة العاشرة منذ عام 2014، وكان من بين هذه المرات ما وصلت فيه الزيادة إلى نسبة %50.

ظلت سياسة دعم الحكومات لأسعار بعض السلع محل جدال واسع على مر العصور، وأقرها البعض في مصر لمساعدة الفقراء، خاصة خلال فترات التضخم المرتفع، وأيضاً لتجنب الاضطرابات الاجتماعية التي قد تنجم عن ارتفاع أسعار السلع الأساسية. وعلى الجانب الآخر، رفض كثيرون برامج دعم السلع المكلفة للحكومة، نظراً لتسببها في زيادة العجز المالي، خاصة مع تراجع احتمالات حدوث الاضطرابات الاجتماعية، وبغض النظر عن الأسباب المؤدية لذلك التراجع.

ورغم الاختلافات، لا يقبل عاقل بإلغاء الدعم في بلد يبلغ متوسط الأجر الشهري فيه ما يعادل 255 دولاراً، يحصل عليها البعض في بلدان أخرى، بسهولة، في يوم واحد. ورغم انخفاض تكلفة المعيشة في مصر مقارنة بالعديد من الدول الأخرى، إلا أن انخفاض التكلفة هذا لا يعوض المستوى الهزيل للأجور في مصر.

يتجاهل صندوق النقد الدولي، أحد أهم مقرضي مصر، حقيقة تدني الأجور ويطلب تعديل أسعار السلع والخدمات لتكون بالتكلفة الحقيقية. ولا تبدي الحكومة المصرية تعاطفاً مع المواطن، ولا تفهماً لحجم المشكلات التي يواجهها، أو الأزمات التي يمكن أن تتعرض لها الأسر المصرية عند إلغاء أو تقليص الدعم.

وقبل عامين، أصدر البنك الدولي تقريراً وضع مصر في المرتبة الثانية عشرة على مستوى العالم من حيث عدد المواطنين المصابين بالتقزم، وهو أحد أهم معايير سوء التغذية والجوع. وقال البنك وقتها إن مصر بها أكثر من مليوني طفل مصابين بالتقزم، بسبب نقص التغذية للأطفال أو للأمهات. وكان برنامج الأغذية العالمي WFP قد أكد في العام 2013 خسارة مصر أكثر من 3.5 مليارات دولار سنويا بسبب الجوع وإصابة الأطفال بأمراض نقص التغذية والتقزم، نتيجة لزيادة تكاليف الرعاية الصحية، وزيادة الأعباء على العملية التعليمية، بالإضافة إلى ضعف الإنتاجية.

دعم أسعار السلع في مصر يسهم في تخفيف أعباء المعيشة على من يحصلون على أجور متدنية بصورة مضحكة مبكية. فإن كان لا بد من إلغاء هذا الدعم، فليأت إلغاء التخفيض المفروض على الرواتب قبله، حتى لا يموت المواطن أو يهاجر.

المساهمون