قلنا عشرات المرات إنّ الأمن الغذائي للدول وتوفير الغذاء الصحي والمياه النقية للمواطن أهم مئات المرات من الاستثمار في الطوب والإسمنت وبناء مدن عمرانية جديدة وقصور رئاسية، بل أهم كثيراً حتى من إقامة عواصم جديدة في الصحراء لا نعرف نوعية قاطنيها الجدد.
وإنّ زراعة القمح والذرة والشعير والأرز وغيرها من الحبوب أهم مائة مرة من المشروعات العقارية والاستثمارية الأخرى، بما فيها مشروعات البنية التحتية حتى لو كانت شبكات الطرق والكباري والكهرباء والصرف الصحي.
وإن إقامة مخابز وأفران خبز ومطاحن جديدة وتطوير المخابز القائمة أهم مليون مرة من إقامة سجون حديثة وعلى طراز أميركي يتم حشر المعارضين السياسيين والصحفيين وأصحاب الرأي بها.
إقامة أفران خبز ومطاحن وتطوير المخابز القائمة أهم مليون مرة من إقامة سجون حديثة يتم حشر المعارضين والصحفيين وأصحاب الرأي بها
وإن صناعة السلع الغذائية والزيوت والبقوليات والحبوب والفول المدمس والعدس والمكرونة أهم كثيراً من إقامة مقار فارهة للحكومة والبرلمان ومجلس شيوخ لا نعرف عنه شيئاً أو هدفاً حتى الآن سوى حصول 300 عضو من أعضائه على مزايا مالية وبدلات ضخمة عن جلسات لا تناقش شيئاً ذا جدوى.
ولو خُيِّرت دولة ما بين ضرورة توفير الغذاء لمواطنيها، وتنفيذ مئات من مشروعات الطرق والكباري، لوجب عليها أن تختار على الفور الخيار الأول، وهو صناعة وإنتاج وزراعة الحبوب وتوفير الغذاء، لأنّه يتعلق بحياة المواطن مباشرة، فالإنسان قد يموت في حال عدم تناول وجبات الغذاء والمياه لعدة أيام، لكنّه لن يموت في حال عدم حيازته أحدث سيارة أو جهاز تكييف وغيره من وسائل الترفيه والراحة.
وفي كلّ الأحوال، فإنّ الحكومات مطالبة بتوفير كلّ احتياجات المواطن دافع الضرائب، توفير غذاء صحي ومياه نظيفة وتعليم وصحة ومسكن لائق ومعاش تقاعدي وبنية تحتية متطورة ومواصلات عامة، ذلك لأنّها تحصل على ضرائب ضخمة من ذلك المواطن، وبالتالي من الطبيعي توجيه حصيلة تلك الضرائب وإيرادات الدولة من رسوم وغيرها لتوفير كلّ هذه الخدمات الضرورية.
منذ اندلاع الغزو الروسي لأوكرانيا وأسعار القمح ترتفع بشكل متواصل لدرجة أنّها زادت بنسبة 40% في خلال أسبوع، وإذا ما استمرت الحرب شهوراً، بل ربما عدة سنوات، كما توقع نائب رئيس الوزراء البريطاني، دومينيك راب، اليوم الأحد، فإنّ الجوع سيلاحق ملايين المواطنين العرب والافارقة والمقيمين في الدول النامية في الفترة المقبلة، وخصوصاً أنّ معظم الدول العربية تستورد القمح والذرة من الدولتين المتحاربتين، روسيا وأوكرانيا.
منذ بدء الحرب الأوكرانية تعرضت الدول العربية المستوردة للقمح والأغذية لصدمة سعرية عنيفة
خذ مثلاً مصر التي تُعَدّ أكبر مستورد للقمح على مستوى العالم بطاقة استيرادية تبلغ 10 ملايين طن، وتستورد 70% من احتياجاتها من القمح من روسيا وأوكرانيا، فمنذ بدء الحرب الأوكرانية تعرضت لصدمة سعرية عنيفة، حين قفزت أسعار بيع القمح محلياً بنحو 200 جنيه يومياً، وتخطت الزيادة خلال ستة أيام فقط حاجز 1000 جنيه في الطن.
ودفعت الزيادة أصحاب المخابز إلى زيادة سعر رغيف الخبز السياحي غير المدعوم، في المخابز أمس السبت، بنسبة تصل إلى 25% على وقع ارتفاع أسعار طن الدقيق في الأسواق العالمية، من 9.5 آلاف جنيه (605 دولارات) إلى 11 ألفاً للطن في أقل من أسبوعين، وهناك مخاوف من أن تمتد الزيادة إلى رغيف الخبز المدعوم، وخصوصاً مع الإشارات الأخيرة التي بعث بها كبار المسؤولين في الدولة بهذا الشأن.
يتكرر المشهد في دول عربية أخرى مستوردة للقمح الروسي والأوكراني مثل تونس والجزائر والأردن والمغرب واليمن والسودان والعراق ودول الخليج، فهذه الدول قد تشهد قفزات في أسعار الدقيق والطحين خلال الفترة المقبلة، وبالتالي زيادة عدد الفقراء والجوعى وحالات الأنيميا والتقزم.
لو كنت مكان صانع القرار، لأعطيت أولوية قصوى لقضية الأمن الغذائي في هذا التوقيت الحرج، فحتى لو وضعت الحرب الروسية الأوكرانية أوزارها خلال أسابيع، وهو أمر مستبعد في ظل إصرار روسيا على حرق أوكرانيا، فما الذي يضمن عدم حدوث حروب وقلاقل في بلدان أخرى مصدرة للقمح والأغذية؟
وما الذي يضمن عدم مرور دول كبرى مصدرة للحبوب مثل فرنسا والهند وكندا وأستراليا والأرجنتين بأزمات داخلية أو حتى خارجية تدفعها إلى وضع قيود على صادراتها الغذائية من القمح والحبوب وغيرها كما فعلت بعض الدول المنتجة خلال جائحة كورونا؟
الأمن الغذائي العربي في خطر، وفاتورة الاستيراد البالغة نحو 100 مليار دولار سنوياً ستقفز مع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية
الأمن الغذائي العربي في خطر، وفاتورة الاستيراد البالغة حالياً نحو 100 مليار دولار سنوياً ستقفز في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، وهو ما يشكل ضغوطا إضافية على موارد الدول المستوردة وموازناتها العامة واحتياطاتها من النقد الأجنبي.
وزراعة القمح والأرز والحبوب وتوفير الغذاء للمواطن وبسعر مناسب أهم مليون مرة من إقامة أكبر مسجد في الشرق الأوسط، وأضخم كنيسة ودار للأوبرا في المنطقة، وأهم مليون مرة من البنايات الفارهة ومقار فخمة للحكومة والبرلمان، ومن مدن يقطنها "علية القوم" من رجال الأعمال وكبار المسؤولين بضعة أيام في السنة، ومن قطار سريع ومكيف مخصص لكبار المستثمرين والسياح ويخدم المناطق السياحية.