بدأت إيران وروسيا في إنشاء ما يعرف بـ"ممر الشمال ـ الجنوب"، إذ تلتقي أهداف الدولتين الخاضعتين لعقوبات غربية واسعة، في البحث عن مسارات آمنة لتجارتهما، بل واستقطاب دول طامحة في نفوذ أكبر وتكاليف أقل لتجارتها للانضمام إلى هذا الممر، الذي يرى محللون أنه قد يؤثر على قناة السويس المصرية، التي تعد أحد أهم الشرايين الملاحية عالمياً.
أعلن وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، أثناء زيارته إلى العاصمة الأذربيجانية باكو، الثلاثاء الماضي، عن البدء عملياً في مد السكة الحديدية لتسيير حركة قطارات منتظمة بمقطع رشت - أستارا على امتداد ساحل بحر قزوين على الأراضي الإيرانية حتى الحدود مع أذربيجان ضمن مشروع ممر الشمال ـ الجنوب. وأكد لافروف أن للمشروع "أهمية إقليمية وعالمية"، لافتا إلى أن وزراء النقل في الدول المشاركة فيه على تواصل مستمر ورؤساء هذه الدول تشرف على ذلك.
ويتكون الممر من شبكة خطوط بحرية وبرية وسكك حديدية يبلغ طولها 7200 كيلومتر، ويبدأ من بومباي في الهند ليربط المحيط الهندي ومنطقة الخليج مع بحر قزوين مروراً بإيران، ثم منها يتوجه إلى سان بطرسوبرغ الروسية، ومنها إلى شمال أوروبا، وصولاً إلى العاصمة الفنلندية، مما يختصر المسافة مقارنة مع قناة السويس بمقدار أكثر من الضعف، مقلصا مدة الشحن وتكلفتها.
وفكرة الممر طُرحت خلال قمة الاتحاد الأوروبي في العاصمة الفنلندية هلسنكي عام 1992، وفي عام 2000 وقعت إيران والهند وروسيا الوثيقة الأولى لإنشائه في سانت بطرسبورغ الروسية، وفي السنوات اللاحقة انضمت 14 دولة أخرى إلى المشروع، منها سلطنة عُمان، وتركيا، كازاخستان، أرمينيا، قرغيزستان، طاجيكستان، بيلاروسيا، أوكرانيا، سورية، وبلغاريا، إلى جانب الدول المؤسسة الثلاث.
وكانت إيران تولي اهتماماً كبيراً باستكمال هذا المشروع منذ أكثر من عقدين، لكونها تقع في قلب الممر، لكنها لم تكن تلقى نفس الحماسة لدى روسيا الطرف الأساسي الآخر فيه، إلى أن تعرضت موسكو لعقوبات غربية واسعة وقاسية منذ عام، على خلفية شنها حرباً على أوكرانيا، ما دفع الروس إلى اتخاذ خطوات حماسية لإنشاء الممر.
ويضم المشروع حالياً بضع منظومات نقل مختلفة لدول بعينها، وقد استثمرت الهند فيه نحو 2.1 مليار دولار، قسم منها لإنشاء البنية التحتية للنقل في إيران.
يقول فلاديمير تسيغانوف رئيس قسم توقعات تنمية منظومات النقل في معهد قضايا النقل التابع لأكاديمية العلوم الروسية، إن البت في مسألة مد السكة الحديدية في إيران والإسراع في تحقيق المشروع، يتزامن مع بحث روسيا عن حلول للالتفاف على العقوبات والقيود الاقتصادية الغربية، والتي لم تمس بعد قطاع الشحن بواسطة السكك الحديدية والقطارات.
ويضيف تسيغانوف في حديث لـ"العربي الجديد": "سيعتمد ممر النقل "الشمال - الجنوب" على نقل الشحن عبر إيران إلى الحدود مع أذربيجان بواسطة خط السكة الحديدية المزمع إنشاؤه، ثم مزيج بين الطرق السريعة والسكك الحديدية التي ينبغي الاعتماد عليها كونها الأقل تكلفة والأنظف بيئياً".
من جهته، يرى محمد عطار جواد، مدير عام مركز "باكستان هاوس" الدولي للدراسات، أن إقامة النظام الاقتصادي الجديد ستغير أطر الخدمات اللوجستية والنقل في السوق العالمية، متوقعاً أن يتحول ممر "شمال ـ جنوب" مع مرور الزمن إلى مركز هام للتنمية الاقتصادية.
وفي مقال بعنوان "لوجستيات القرن الـ21 والنظام الاقتصادي الجديد: آفاق ممر النقل الشمال - الجنوب" نُشر في موقع نادي "فالداي" الروسي الدولي للنقاشات، أمس، رأى جواد أن روسيا تكيف لوجستياتها مع واقع العقوبات الأميركية والأوروبية، عبر تطوير العلاقات مع الدول الآسيوية والأوراسية من أجل تنويع الأسواق.
وبحسب تقديرات سابقة صادرة عن البنك الأوراسي لإعادة الإعمار والتنمية، فإن التكلفة الإجمالية للمشروع تقدر بـ38.2 مليارات دولار، 10 مليارات منها لإنشاء المواقع ذات الأولوية القصوى لتشغيل الممر.
ووجدت إيران ضالتها في تنفيذ المشروع الذي طالما حلمت بتنفيذه على أرض الواقع، بعد أن شعرت روسيا بخطورة العقوبات الغربية العنكبوتية التي تستهدف خنق موارد روسيا المختلفة.
ويقول المتحدث السابق باسم الجمارك الإيرانية، روح الله لطيفي لـ"العربي الجديد" إن إيران لموقعها الجغرافي تشكل همزة وصل بري وبحري لعدة ممرات دولية، أهمها "شمال ـ جنوب"، مشيرا إلى أن أكثر من عقدين مرا على طرح المشروع، لكنه لم يستكمل بعد، إلا أنه أصبح يكتسب أهمية حيوية واستراتيجية في السنوات الأخيرة في ظل التطورات الدولية الأخيرة والتنافس بين الاقتصادات النامية والقوى العالمية.
ويعزو لطيفي عضو لجنة العلاقات الدولية وتنمية التجارة في بيت الصناعة والمناجم والتجارة الإيراني، دوافع التركيز الأخير على ممر "الشمال ـ الجنوب" إلى تطورات سياسية واقتصادية إقليمية ودولية، كالعقوبات على روسيا والتنافس الصيني الهندي والتقارب الاقتصادي الهندي الروسي وارتفاع رسوم النقل البحري وأهمية عامل الزمن في نقل السلع.
ويتفرع الممر بعد وصوله إلى داخل إيران إلى الفرعين الغربي والشرقي، يصلان جنوبي إيران بالخليج وبحر عُمان بشرقها وشمالها على بحر قزوين، فضلاً عن أن شبكة كبيرة من الخطوط الحديدية والبرية الداخلية من المقرر أن تربط تقريباً جميع الحدود الإيرانية والمحافظات الإيرانية بشبكة مواصلات على طريق ممر الشمال الجنوب داخل إيران، ما يعني أن هذه الشبكة الداخلية الإيرانية تشكل حلقة وصل بين الدول الـ15 الجارة لإيران على حدودها الأربعة، شمالاً وجنوباً وشرقاً وغرباً.
وتبادلت إيران وروسيا خلال العام الماضي زيارات مكثفة بهدف توسيع التجارة عبر هذا الممر، إذ زار مساعد الرئيس الروسي، إيغور لويتين طهران أواخر أغسطس/آب الماضي، قائلا إن إيران يمكن أن تصبح طريقاً بديلاً للنقل من روسيا وإليها، وأن تتحول إلى "نقطة ثقل للنقل لروسيا".
واستقبلت إيران في 12 يوليو/ تموز الماضي، أول قطار شحن روسي عبر محطة "سرخس" الحديدية شمال شرقي البلاد، ثم انتقلت شحنتها عبر سكك حديدية إيرانية إلى ميناء "الشهيد رجايي" في محافظة هرمزجان المطلة على الخليج، ومن هناك إلى الهند.
کما توسعت مسارات النقل عبر هذا الممر خلال أغسطس/آب وسبتمبر/أيلول الماضيين إلى 14 مساراً باتجاه موانئ دول مختلفة، بينما كانت هذه المسارات تقتصر سابقاً على موانئ الهند والإمارات وروسيا. وحسب إعلان الملاحة البحرية الإيرانية، خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فإن النقل عبر ممر "الشمال الجنوب" في الفترة من 21 مارس/آذار إلى 21 يوليو/تموز 2022 (الأشهر الأربعة الأولى من السنة الإيرانية الحالية)، سجل رقماً قیاسیاً، حيث نقلت السفن الإيرانية في هذا الممر 27 ألفاً و500 حاوية بوزن 337 ألف طن خلال تلك الفترة.
ورغم الأهمية التي يبديها المسؤولون الإيرانيون والروس بشأن هذه الممر إلا أنه يواجه عراقيل وتحديات فنية وغيرها، وفق مستشار شؤون الممرات الدولية في منظمة التنمية والتجارة الإيرانية، أنوش رهام، الذي أشار في حديث مع "العربي الجديد" إلى جملة تحديات فنية، منها البيروقراطية الإيرانية، ومشاكل في نقل السلع في موانئ الدول الجارة على شواطئ بحر قزوين، وعدم إكمال الخطوط الحديدية للمشروع داخل إيران.
ويضيف رهام أن عمولة النقل في بحر قزوين أيضا مرتفعة، لغياب التنافسية في الملاحة البحرية في هذا البحر بسبب قلة سفن الشحن فيه، مشيرا إلى بطء عمل الشركات المشغلة لموانئ الدول الجارة بالمقارنة مع نظيراتها الإيرانية، فضلا عن الفترة الزمنية الطويلة التي تستغرقها عمليات استقبال السلع والشحن والنقل داخل مسار الممر في إيران.
كما يلفت إلى مشاكل فنية أخرى مثل ضرورة توحيد بوليصات الشحن بين الدول كإحدى أهم الخطوات الفنية التمهيدية، بالإضافة إلى ضرورة تأسيس شركات لوجستية عملاقة وإنشاء طرق تجارية حرة داخل إيران وتطوير النقل البحري والحديدي على طول الممر.
وسيربط الممر الهند بشمال وشرق أوروبا، حسب لطيفي، الذي يؤكد أن "البعض أصبح يعتبر هذا المسار أهم مسار تجاري بين آسيا وأوروبا"، لافتا إلى أنه سيقلل مسار "الشمال ـ الجنوب" بطول 16 ألف كيلومتر للنقل عبر قناة السويس إلى 7 آلاف كيلومتر من خلال هذا المسار البديل.
بينما يرى إيرانيون أن ممر "الشمال ـ الجنوب" يشكل منافساً قوياً لقناة السويس المصرية، إلا أن محللين روسيين يقللون من شأن هذه المنافسة. ويقول المتحدث السابق باسم الجمارك الإيرانية، روح الله لطيفي، إن الممر سيخفض تكاليف النقل بنسبة 30% مقارنة مع قناة السويس، مضيفا أن تكاليف التفريغ والشحن والجمارك والتخزين ستنخفض كثيراً لأنه أقصر مسافة.
والممر أحد أرخص الطرق الرابطة بين قارتي آسيا وأوروبا، حيث تتقلص تكاليف النقل عبر مسار الشمال الجنوب بمقدار 2500 دولار مقابل كل 15 طناً، فضلاً عن أن ذلك يستغرق 14 يوماً فقط، في مقابل 40 يوماً عبر طريق قناة السويس، حسب البيانات الإيرانية.
لكن الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، إيفان بوتشاروف، لا يتوقع أن يشكل الممر منافسة هامة لقناة السويس، بينما قد يكون بديلا لمسارات بعينها باعتباره سيقلص المسافات إلى أقل درجة ممكنة، إذ يمكن النظر إلىه كبديل لنقل الشحن من الهند إلى سانت بطرسبورغ الروسية، مثلا، نظراً للتقليص الكبير للمسافة.
ويلفت بوتشاروف في تصريح لـ"العربي الجديد" إلى أن الشحن البحري في أغلب الأحيان أرخص من الشحن البري، ما يعني أنه يمكن أن نتوقع تحولاً جزئياً فقط لحركة الشحن، مؤكدا أن قناة السويس ستبقى هي الشريان التجاري الرئيسي في العالم.