لم يكن الأربعاء 26 يوليو/ تمّوز يوماً عادياً في النيجر ولا في فرنسا، حيث اصطفَّ تسعة من كبار ضباط الحرس الوطني والرئاسي في مشهد مهيب خلف الكولونيل ميجور أمادو عبد الرحمن أثناء إعلانه إطاحة رئيس النيجر المنتخب محمد بازوم، واحتجازه داخل القصر الرئاسي في العاصمة نيامي، وهو الإعلان الذي وضع مصالح فرنسا الاقتصادية في النيجر على المحكّ.
أدَّى هذا الانقلاب الذي كان لروسيا ألف يد فيه، وفق مراقبين، إلى اختلاط الأوراق وتشابك الأمور في قصر الإليزيه، فقد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الانقلاب في النيجر بـ "الخطير"، مؤكِّداً تعاونه مع القادة الإقليميين من أجل الدفاع عن الديمقراطية هناك، ومعرباً عن دعمه للعقوبات التي تفرضها المنظمات الإقليمية على الانقلابيين، فيما شدّدت وزيرة الخارجية الفرنسية كاثرين كولونا على ضرورة استجابة الانقلابيين للدعوات الدوليّة من أجل العودة إلى الحكم الديمقراطي.
كما جرت عليه العادة، يتمّ التحجُّج دوماً بالديمقراطية ومكافحة الإرهاب والتطرُّف للتستُّر على الدوافع الاستراتيجية الخفيّة كالقيام بأكبر السرقات في التاريخ البشري، حيث يعتبر سقوط رئيس النيجر بازوم ضربة موجعة لفرنسا التي تُعدّ المستورد الرئيسي لليورانيوم النيجيري الذي يساعد في تشغيل محطات الطاقة النووية الفرنسية التي تنتج 70% من الكهرباء الذي لا يُستهلك فقط في فرنسا، بل يتمّ تصديره إلى دول أوروبية أخرى مثل بريطانيا وإيطاليا وألمانيا، الأمر الذي يبرِّر موقف الاتِّحاد الأوروبي المندِّد للانقلاب في النيجر.
منذ أكثر من 40 عاماً، عملت شركة AREVA الفرنسية على نهب ثروات اليورانيوم في شمال النيجر تحت غطاء اتِّفاقيات ثنائية فُصِّلت على مقاس المصالح الفرنسية، وعلى حساب شعب النيجر الذي يقبع تحت براثن الفقر.
بالعودة إلى مسلسل الحرب الروسية الأوكرانية، يتذكَّر المُتتبِّع له الحلقات التي توعَّد فيها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بإغراق أوروبا في الظلام، خصوصاً بعد أن أخذت الأحداث منحى أصعب كتمرُّد مجموعة فاغنر والهجوم على جسر القرم. بالرغم من تبرئة واشنطن لموسكو من التورُّط في انقلاب النيجر، إلا أنّ وجود بعض الأدلة يفنِّد ذلك، فقد رفرف علم روسيا وسط المظاهرات المؤيِّدة للانقلاب في النيجر، كما تعهَّد قائد مجموعة فاغنر الروسية يفغيني بريغوجين في تسجيل منسوب له بالاستعداد للتوجُّه إلى أفريقيا، ووصف لاحقاً انقلاب النيجر بـ "الكفاح ضدّ المستعمر القديم"، ووجد رئيس النيجر بازوم الحليف لفرنسا، والذي لم يُلبِّ دعوة نظيره الروسي بوتين لحضور أعمال القمة الروسية الأفريقية في مدينة سان بطرسبرغ الروسية، نفسه حبيساً في مقرّ إقامته.
بات واضحاً الآن تغيُّر بوصلة النفوذ في القارّة السمراء، حيث بدأت الدول الأفريقية بالقفز الواحدة تلو الأخرى نحو القارب الروسي هرباً من الاستغلال الفرنسي، فعلى سبيل المثال، مالي وبوركينا فاسو حليفتا روسيا تساندان النيجر وتهدِّدان بالردّ على أيّ تدخُّل عسكري أجنبي في جارتهما، وقد قرَّرتا أيضاً وقف تصدير اليورانيوم والذهب إلى فرنسا وأميركا، كما ألغت بوركينا فاسو في 10 أغسطس/ آب اتِّفاقية مع فرنسا تتيح لشركاتها ممارسة نشاطاتها التجارية في بوركينا فاسو ودفع الضرائب في فرنسا، ردّاً على إعلان باريس وقف مساعداتها التنموية لهذا البلد الأفريقي الذي يخالف موقفها من الانقلاب في النيجر.
لا يقتصر الأمر على الطاقة واليورانيوم فحسب، بل على الذهب أيضاً، ففرنسا التي ليس لديها مناجم ذهب تحتلّ المرتبة الرابعة عالمياً باحتياطيات بلغت 2436.6 طنّا من الذهب، وفقاً لأحدث بيانات مجلس الذهب العالمي، بينما يبلغ احتياطي الذهب صفراً في مالي التي يوجد بها 860 منجم ذهب وتنتج 50 طنّاً من الذهب سنوياً، وهذا ما يبيِّن بشكل جليّ وواضح مصير الذهب الذي تنتجه مالي.
سيراً على خطى أميركا التي نهبت ثروات العراق خلال الحرب غير الشرعية التي شنَّتها في عام 2003، نهبت فرنسا ذهب مالي لا سيَّما منذ إطلاق الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند عملية سرفال الفرنسية في الدولة الأفريقية عام 2013، والتي استُتبِعت بعملية برخان في عام 2014 تحت ذريعة مكافحة التمرُّد في منطقة الساحل الأفريقي، وهذا ليس غريباً على الغرب الذي يخلق التمرُّد ثمَّ يتدخَّل عسكرياً لنهب الثروات، وعلى رأسها الذهب الذي أثبت أنّه أكثر الأصول الاحتياطية أماناً على مرّ العصور لا سيَّما في أوقات التوتُّر والأزمات.
جمهورية أفريقيا الوسطى هي مثال آخر على التمدُّد الروسي الذي يهدِّد مصالح فرنسا الاقتصادية، فقد احتلَّت هذه الدولة الأفريقية المرتبة الثالثة ضمن قائمة أفقر دول العالم رغم امتلاكها ثروات هائلة من الذهب والنفط واليورانيوم والألماس، الأمر الذي حفَّز روسيا على بذل الغالي والنفيس للحيلولة دون عودة النفوذ الفرنسي لهذا البلد الأفريقي، حيث يعود الحضور الروسي في جمهورية أفريقيا الوسطى إلى عام 2017 حين عرضت موسكو التبرُّع بأسلحة خفيفة لهذا البلد بموافقة جميع أعضاء مجلس الأمن الدولي، وسرعان ما تحوَّل ذلك التبرُّع إلى وجود أمني فعّال ذي أهداف خفيّة أخرى كحراسة المنشآت التي تشيِّدها روسيا هناك، وكذا حماية النظام القائم مقابل الحصول على الموارد المنجمية.
لم تُنهِ فرنسا استعمارها لـ 14 دولة أفريقية، ولكنّها انتهجت هناك سياسة الاستعمار الحديث التي تقوم أساساً على السيطرة الاقتصادية على البلدان المستعمرة واستنزاف ثرواتها دون إنفاق فلسٍ واحد على تشييد البنية التحتية هناك، حيث أجبرت فرنسا هذه الدول على التعامل بالفرنك الأفريقي الذي تتمّ طباعته وتحديد قوّته الشرائية من جانب باريس، وفرضت عليها إيداع 50% من احتياطياتها النقدية من العملات الأجنبية في حساب تجاري لدى البنك المركزي الفرنسي، وحرمتها حقّ استغلال تلك الأموال، وقد جعلت كل الرؤساء الأفريقيين الذين حاولوا قلب الطاولة على هذا النظام عبرة لمن يعتبر، سواءً من خلال الإطاحة أو الاغتيال مثل رئيس غينيا أحمد سيكو توري، ورئيس توغو سيلفانوس أوليمبيو، ورئيس بوركينا فاسو توماس سانكارا.
خلاصة القول، بعد النيجر، ليس مُستبعداً أن تخرج تشاد من العباءة الفرنسية لتحتمي بفرو الدب الروسي، وفقاً لخطّة روسيا الهادفة إلى إنشاء اتِّحاد كونفدرالي موحِّد للدول الأفريقية يُمكِّن روسيا من الاستفادة اللامحدودة من الثروات الأفريقية. وبين الأطماع الأوروبية، الأميركية، الصينية، والروسية، ستبقى الدول الأفريقية الغنية بالثروات حبيسة الاحتياج للحماية والسلاح ورهينة الفقر والعوز.