روسيا تخفّض ديونها وتراكم الاحتياطي الأجنبي رغم الحرب والعقوبات وتجميد أموالها... كيف فعلت ذلك؟
- استفادت روسيا من ارتفاع أسعار النفط والغاز لزيادة احتياطياتها النقدية إلى 402 مليار دولار، مما يعكس استراتيجية ناجحة في تنويع مصادر الدخل وتعزيز الاستقرار الاقتصادي.
- العقوبات ساهمت بشكل غير مباشر في تقوية الاقتصاد الروسي عبر رفع أسعار النفط والغاز وتنامي العلاقات التجارية مع الصين، ما يدل على قدرة روسيا على التكيف مع الضغوط الاقتصادية وإيجاد شركاء تجاريين جدد.
رغم نفقات الحرب الضخمة في أوكرانيا، والعقوبات الغربية القاسية عليها، وتجميد الغرب ما يقرب من 300 مليار دولار من احتياطيات البلاد من النقد الأجنبي، فقد تمكنت الحكومة الروسية من خفض الديون الخارجية بنسبة كبيرة، من 384.2 مليار دولار في يونيو/ حزيران عام 2022 إلى 281.6 مليار دولار في فبراير/ شباط 2024، حسب أحدث بيانات صادرة عن البنك المركزي الروسي.
بل واستطاعت روسيا أيضاً مراكمة مزيد من الاحتياطيات النقدية الأجنبية التي شهدت زيادة، بفضل الزيادة الملحوظة في أسعار النفط والغاز، حيث بلغ الاحتياطي الأجنبي الروسي 402 مليار دولار في فبراير الماضي، حسب بيانات موقع احتياطات الدول.
يذكر أن الديون الروسية وصلت إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 729 مليار دولار عام 2014 وأدنى مستوى قياسي لها عند 86.1 مليار دولار في مايو/ أيار 2009، وفق بيانات ستاتيستا.
وحسب بيانات البنك المركزي الروسي الحديثة فقد تراجع الدين الخارجي لروسيا بنسبة 4.1%، بانخفاض بمقدار 12.8 مليار دولار.
وتشير بيانات البنك المركزي الروسي إلى أنه اعتباراً من الربع الأول من عام 2014، كان نحو 90% من الدين الخارجي لروسيا يعود إلى البنوك والقطاعات الأخرى، في حين شكل الدين الحكومي حوالي 7.5%من إجمالي الديون .
ويقول معهد بروغيل للدراسات في بروكسل، إن البنوك والشركات المملوكة للقطاع العام لم يجر ذكرها في هذه البيانات، وبالتالي يعلق بروغيل بالقول: "من المرجح أن تكون حصة الحكومة الفعلية من الديون أعلى من 7.5%".
ويرى المعهد أن القروض والالتزامات للمستثمرين المباشرين هي العنصر الأكبر في الديون.
وبالنسبة للديون الخارجية للبنوك والقطاعات الأخرى، يشير المعهد إلى أن 54% من ديون روسيا الخارجية تستحق في أكثر من عامين و10% يتراوح سدادها بين سنة وسنتين، في حين أن حوالي 23% تتراوح فترة استحقاقها لمدة سنة واحدة أو أقل.
وتظهر أحدث الأرقام الصادرة عن بنك التسويات الدولية، أن البنوك الفرنسية والإيطالية هي صاحبة القروض الأكثر المستحقة على روسيا، حيث تبلغ المطالبات المستحقة لهذه البنوك أكثر من 20 مليار دولار، في حين أن البنوك النمساوية لديها مطالبات ديون على روسيا تقدر بنحو 17.5 مليار دولار.
كيف نجحت موسكو؟
لكن كيف تمكنت روسيا من النجاح في خفض الديون رغم كلف الحرب والعقوبات؟
يلاحظ أن العقوبات الغربية لعبت دوراً رئيسياً في تمويل الميزانية الروسية، إذ إنها رفعت أسعار السلع الأولية في الأسواق العالمية، حيث ارتفعت أسعار النفط والغاز والمعادن والقمح. وهي سلع رئيسية تعتمد عليها روسيا في النمو الاقتصادي والحصول على العملات الصعبة.
وحسب معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة البريطاني، تمثل إيرادات صناعة النفط والغاز في روسيا ما بين 30% إلى 50% من إجمالي إيرادات الميزانية الفيدرالية على مدى العقد الماضي، مما يجعلها المصدر الأكثر أهمية للنقد بالنسبة للكرملين.
ويساهم قطاع النفط والغاز الروسي بنحو 20 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في المتوسط.
ويقول المعهد بسبب القيود التجارية التي فرضها الغرب، وسط الصراع في أوكرانيا والجهود التي تبذلها روسيا لإعادة توجيه مسارها، ارتفعت حصيلة صادراتها من النفط والغاز بسبب ارتفاع الأسعار.
ولاحظت مؤسسات مالية أنه في الأشهر الأولى التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، ارتفعت عائدات روسيا من الطاقة، بسبب الذعر الذي أصاب الأسواق العالمية ورَفْع أسعار الطاقة من نفط وغاز طبيعي إلى مستويات غير مسبوقة.
وعبر هذه الزيادة تمكنت روسيا من الحصول على تمويل الحرب، رغم أن الدول الغربية جمدت أموال تقدر قيمتها بنحو 300 مليار يورو من احتياطيات البنك المركزي الروسي، كما أن 70% من أصول النظام المصرفي الروسي تخضع للعقوبات الغربية المشددة.
وتشير بيانات وكالة الطاقة الدولية إلى أن أحجام صادرات النفط الروسية ظلت مستقرة على أساس سنوي حتى عام 2023 عند 7.5 ملايين برميل يومياً، مع خسارة طفيفة في النفط الخام قابلتها مكاسب مماثلة في المنتجات النفطية.
وفي حين أن إجمالي الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والمملكة المتحدة ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في آسيا ظلت عند مستويات لا تذكر، حيث انخفضت بمقدار 4.3 ملايين برميل يومياً عن متوسطها قبل الحرب، ارتفعت الشحنات بشكل حاد إلى الهند والصين وتركيا ودول في الشرق الأوسط.
وعلى صعيد الغاز الطبيعي، وبعد غزو أوكرانيا، قطعت روسيا 80 مليار متر مكعب من إمدادات الغاز عبر خطوط الأنابيب إلى أوروبا، مما أدى إلى إغراق المنطقة في أزمة طاقة، ولكنها أبقت على صادرات الغاز المسال الروسي.
يضاف إلى ذلك فإن الدعم الصيني ساهم في تقليل الخسائر التجارية التي سببتها العقوبات الغربية لروسيا. حيث تجاوزت التجارة البينية بين روسيا والصين 240 مليار دولار عام 2023، وهو رقم قياسي، ارتفاعاً من 147 مليار دولار قبل الحرب، وفقاً لبيانات الجمارك الصينية.
وتقوم الشركات الصينية بملء الفجوات المتبقية في خطوط الإمداد الروسية بشحنات من المعدات الميكانيكية والآلات التي تصنع أشباه الموصلات، وفقاً للخبير الاقتصادي هيلي سيمولا من معهد بنك فنلندا للاقتصادات الناشئة.
جزيرة القرم:
جرى فرض العقوبات الغربية الشاملة لأول مرة على روسيا، بعد ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014، وبدء الحرب غير المعلنة في دونباس. وعلى الفور، اضطر النظام المالي في روسيا إلى التكيف مع العقوبات.
وخلال المرحلة الأولى من الحرب، تعرضت روسيا، وهي دولة مصدرة لرأس المال، لعقوبات كانت أكثر ملاءمة لدولة مستوردة لرأس المال.
وتعرضت الشركات والبنوك الروسية لقيود على الديون والأسهم. وأعقب ذلك حملة للتخلي عن الدولرة، مما أدى إلى خفض حصة ودائع الشركات بالعملات الأجنبية في روسيا من 45% في عام 2016 إلى 25% في عام 2022، وحصة قروضها بالعملة الأجنبية من 35% إلى 15%.
أما بين الأفراد، فقد انخفضت الودائع بالعملة الأجنبية من 25% إلى أقل من 10%. وذلك وفق بيانات أوردها معهد كارنيغي للدراسات.
واستمرت هذه الاتجاهات في أعقاب الغزو واسع النطاق وإخراج روسيا لاحقاً من نظام الدفع الدولي "سويفت".
ونتيجة لذلك فإن مستويات الديون بالعملة الأجنبية لم تعد تهدد الاستقرار المالي لروسيا. ويمتلك البنك المركزي احتياطيات كافية من النقد الأجنبي لتمويل هذا الدين.
وحسب بيانات نشرها معهد "كارنيغي" للدراسات في أميركا، في بداية يوليو/ تموز 2023، بلغ دين الشركات غير المالية 50.6 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ دين الأفراد 20.4 في المائة، وديون الحكومة 16.1 في المائة.
وهذه المستويات تقل بشكل كبير عن معدل ديون دول مجموعة العشرين. ويقول كارنيغي إن "من عجيب المفارقات إلى حد ما أن تخلص روسيا من الدولرة ساعد في عزل الاقتصاد الروسي عن الصدمات المالية الخارجية".
ويضيف "في ربيع عام 2023، على سبيل المثال، أدى التضخم في الولايات المتحدة وقرار بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي زيادة أسعار الفائدة إلى إعادة تقييم محافظ سندات البنوك الأميركية.