مع دخول العقوبات الأميركية الجديدة بحق موسكو حيز التنفيذ، اعتبارا من أمس الإثنين، تواصل روسيا البحث جاهدة عن الحد من اعتمادها على الدولار في تعاملاتها مع الدول الأخرى وتجارتها الخارجية، وسط شكوك في واقعية الاستغناء عن العملة الأميركية بسهولة في المستقبل المنظور.
واستبق المسؤولون الروس، دخول العقوبات حيز التنفيذ، بإصدار مجموعة من التصريحات حول إمكانية الحد من اعتماد روسيا على الدولار في التعاملات الثنائية للتجارة الخارجية.
وفي الوقت الذي دعا فيه وزير الصناعة والتجارة، دينيس مانتوروف، في وقت سابق من أغسطس/آب الجاري، إلى الانتقال إلى الحسابات بالعملات الوطنية، لم يستبعد وزير المالية، أنطون سيلوانوف، احتمال التخلي عن الدولار في إمدادات النفط، واصفا العملة الأميركية بأنها باتت "آلية خطرة للحسابات".
وأعلنت شركة "روس أوبورون إكسبورت" الروسية لتصدير الأسلحة والمعدات العسكرية هي الأخرى عن التخلي التدريجي عن الدولار، بسبب "مخاطر العقوبات".
وفي الثامن من الشهري الجاري، أعلنت واشنطن عن فرض إجراءات عقابية جديدة بحق روسيا، على خلفية اتهام موسكو بالوقوف وراء تسميم العميل المزدوج الروسي، سيرغي سكريبال، في مدينة سولزبري البريطانية، في مارس/آذار الماضي.
ووفق منشور على صفحة وزارة الخارجية على الإنترنت يوم الجمعة الماضي، فإن الولايات المتحدة قررت سريان الحزمة الأولى من العقوبات ابتداء من السابع والعشرين من أغسطس/آب الجاري، مشيرة إلى أنها ستتوقف عن منح تراخيص لتصدير الأسلحة الأميركية للمؤسسات الحكومية الروسية، والمنتجات ذات الاستخدام المزدوج، بالإضافة إلى رفض منح أي قرض وضمانات ائتمانية لروسيا، أو أي دعم آخر من قبل أي مؤسسة أميركية.
ويمكن طرح الحزمة الثانية الأكثر صرامة من هذه العقوبات في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، ما قد يؤثر على الإقراض للكيانات القانونية الروسية وصادرات وواردات السلع.
وأثارت العقوبات الجديدة حالة من القلق في الأسواق الروسية، وزادت من النقاشات حول ضرورة البحث عن بديل عن الدولار للتعاملات التجارية الثنائية مع الدول الأخرى، بما فيها تركيا التي دخلت أيضا مرحلة الحرب التجارية والفتور في العلاقات مع الولايات المتحدة، بينما لم تشهد الأسواق، أمس، تأثيرات سلبية ملموسة مع بدء سريان العقوبات الجديدة.
ويعتبر أندريه كوشكين، رئيس قسم العلوم السياسية والاجتماعية في جامعة "بليخانوف" الاقتصادية الروسية بموسكو، أن الحروب التجارية التي تخوضها الولايات المتحدة تدفع بدول أخرى إلى الحد من اعتمادها على الدولار، مشيرا في الوقت نفسه إلى أن طريق البحث عن بديل مليء بالصعوبات.
ويقول كوشكين، في حديث لـ"العربي الجديد": "لا دخانَ بلا نار. تجري أحاديث حول الانتقال إلى الحسابات بالعملات الوطنية على مستويات رفيعة جدا بين دول مثل روسيا وتركيا وإيران والصين، وحتى الاتحاد الأوروبي بدأ يتحدث عن إقامة منظومة مدفوعات مستقلة لحماية شركاته من الإجراءات الأميركية. يمكن الإقرار بأن الحد من الاعتماد على الدولار بات واقعا قريبا".
وحول رؤيته لكيفية وموعد إقدام الدول المتضررة على التخلي عن الدولار، يضيف: "في حال شددت واشنطن عصا العقوبات والحروب التجارية وأوصلت الدول الأخرى إلى نقطة الغليان، فبعد نحو عام قد نشهد أحاديث جادة وحتى اختبارات للتعاملات بالعملات الوطنية. أما التطبيق الفني للانتقال إلى الحسابات بالعملات المحلية، فسيستغرق وقتا أطول. لكن أعتقد أن السلطات المالية الروسية قد بدأت بالفعل مناقشة الجوانب الفنية للحد من الاعتماد على الدولار".
وفيما يتعلق بتأثير الاستغناء عن الدولار على الاقتصاد الأميركي، يتابع: "لا مجال للحديث عن أي تهديد وجودي لاقتصاد الولايات المتحدة، ولكنها ستتحمل أعباء كبيرة، وهي تتحملها بالفعل جراء الحروب التجارية مع الاتحاد الأوروبي والصين. كما سيؤثر ذلك على الوجود الجيوسياسي الأميركي حول العالم وسيدفعها إلى التقشف".
ومع ذلك، يذكر كوشكين أن الطريق إلى الحد من الاعتماد على الدولار لن يخلو من صعوبات، بسبب التذبذبات وعدم استقرار أسعار صرف عملات الدول الصاعدة، وفي مقدمتها الليرة التركية التي سجلت أكبر معدل تراجع، بالإضافة إلى العملة الروسية الروبل.
وعلى الرغم من تعافي الروبل في العام الماضي 2017 والربع الأول من العام الحالي، واستقراره عند مستوى دون الـ60 روبلا للدولار مدفوعا باتفاق خفض إنتاج النفط مع دول أوبك، إلا أنه دخل منذ إبريل/نيسان الماضي مرحلة أخرى من التراجع تحت وطأة العقوبات الأميركية الجديدة، ليتراجع إلى نحو 67 - 68 روبلا للدولار الواحد.
وتأثر الروبل أيضا بشراء البنك المركزي عملات أجنبية من أجل احتياطيات الدولة، حيث تشير البيانات إلى زيادة هذه المشتريات لترتفع، في 21 أغسطس/آب الجاري، إلى ما يعادل 20.1 مليار روبل (300.1 مليون دولار)، مقارنة مع ما قيمته 17.5 مليار روبل في اليوم السابق.
وكان رئيس لجنة الأسواق المالية في مجلس الدوما الروسي (مجلس النواب)، أناتولي أكساكوف، قد لوّح، في تصريحات صحافية في وقت سابق من الشهر الجاري، بأن استخدام الدولار الأميركي للضغط على دول أخرى، سيؤدي إلى خلق عملة عالمية بديلة.
وفي مقابل تداعيات تراجع الروبل على زيادة معدلات التضخم وما نتج عنه من أعباء مالية أكبر على السكان، إلا أنه أحدث فائضا غير مسبوق بالميزانية الروسية التي تجني إيراداتها بالدولار وتنفق في الداخل بالعملة المحلية.
وذكرت صحيفة "إر بي كا" المتخصصة في الشأن الاقتصادي، في عددها الصادر أمس الإثنين، أن تراجع العملة الروسية أدى إلى ارتفاع قيمة النفط إلى أكثر من 5 آلاف روبل للبرميل، لأول مرة في التاريخ، مما يعني أن الموازنة الروسية ستحقق أكبر فائض منذ عام 2008، وكأن نفط "أورالز" الروسي ارتفع إلى أكثر من 150 دولاراً، وفقا لسعر الصرف السائد قبل تعويم الروبل عام 2014.
وأشارت الصحيفة إلى أن حصة النفط والغاز في إيرادات الميزانية الروسية في العام الحالي تبلغ أكثر من 40%، مشيرة إلى أن الموازنة الأصلية لهذا العام كانت تقتضي عجزا بنسبة 1.3% من الناتج المحلي الإجمالي، قبل أن يتم خفضه إلى 0.5% قابلة للتحول إلى فائض بحلول نهاية العام.
وبحسب تقديرات الصندوق الروسي للاستثمار المباشر، أمس الإثنين، فإن فائض الموازنة الروسية قد يبلغ نحو 2.5% - 2.7% من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، وهو أعلى مستوى منذ عام 2008 الذي سجل 4.1%.
وبعد تفاقم الأزمة الراهنة الناجمة عن مواجهة الاقتصاد الروسي صدمتي تدني أسعار النفط والعقوبات الغربية على خلفية الوضع في أوكرانيا، سعت روسيا للحد من اعتمادها على أسعار النفط وتذبذب سعر صرف الروبل ومنع استنزاف احتياطها الدولي، وذلك عن طريق وضع قاعدة جديدة للميزانية تقتضي إيداع الفارق بين سعر النفط 40 دولارا والسعر الفعلي في الاحتياطات.
وأتاح هذا الإجراء زيادة الاحتياطات الدولية الروسية المتراجعة من 368 مليار دولار مطلع عام 2016 إلى أكثر من 450 مليار دولار حاليا.
ويشير محللون ماليون إلى أن موسكو ستسعى، بشكل كبير، لحماية قطاعها المصرفي من تداعيات العقوبات التي تستهدفه بشكل مباشر. وتوقعت إيرينا نوسوفا، نائبة رئيس مجموعة "أكرا" للتصنيفات المصرفية، لـ"العربي الجديد"، في وقت سابق من الشهر الجاري، أن يؤثر تشديد العقوبات سلباً على القطاع المصرفي الروسي بأسره، وسط قطع مصادر التمويل وتراجع ثقة المستثمرين وانخفاض قيمة العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم.
وقالت نوسوفا: "يتعلق الأمر بشكل أساسي بالمصارف ذات الحصص المملوكة للدولة، لكونها أكبر اللاعبين في السوق المصرفية الروسية وتجري معاملات نشيطة مع أطراف خارجية وبالعملة الأجنبية. نظراً إلى تركيز نحو 60% من أصول القطاع المصرفي الروسي بخمسة مصارف فقط، فإن الضربة في حال تطبيق العقوبات ستكون قوية".