دول تخفض قيمة عملاتها المحلية... ما السبب؟

26 ديسمبر 2024
موظفة تعد أوراق الدولار في بنك بمقاطعة جيانغسو شرق الصين/فرانس برس
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتبنى بعض الدول سياسة تقوية عملاتها لتعزيز صورتها المالية أمام المستثمرين، رغم المخاطر المرتبطة باستنزاف الاحتياطي النقدي وتحمل خسائر مالية.
- دول أخرى، مثل الصين وتركيا، تخفض قيمة عملاتها للاستفادة من زيادة الصادرات وجذب الاستثمارات، مما يعزز الميزان التجاري ويوفر سيولة دولارية لدعم الاقتصاد.
- المدرسة الثالثة تفضل تثبيت قيمة العملة لتحقيق استقرار طويل الأمد، مما يتطلب احتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي، كما هو الحال في دول الخليج التي تربط عملاتها بالدولار.

في إدارة أسواق الصرف العالمية وتعامل الدول مع عملاتها الوطنية، نحن أمام عدة مدارس رئيسية، دول تعمل على تقوية عملاتها المحلية مقابل العملات الرئيسية، ومنها الدولار واليورو، بكل ما أوتيت من قوة ولديها مبرراتها، ودول في المقابل تعمل على خفض قيمة عملتها وبشكل ممنهج وتنزعج في حال ضعف قيمة الدولار مقابل عملاتها ولديها مبرراتها أيضا، ودول حريصة جدا على تثبيت قيمة عملاتها الوطنية لسنوات طويلة قد تصل إلى عقود.

وهناك دول رابعة تعيش فوضى شديدة في أسواق الصرف واضطرابات قوية في حركة عملاتها المحلية التي تشهد تهاويا متواصلا رغم إعلان حكوماتها الحرص على تقوية العملة وعدم انزلاقها لتأثير ذلك سلباً على الأسواق وأسعار السلع، رغم أن الممارسات اليومية لحكومات تلك الدول تؤكد عكس ذلك؛ حيث الوقوع في مستنقع الديون الخارجية والداخلية وإهدار المال العام وبيع أصول الدولة للأجانب.

وهناك مدرسة خامسة، وهي السائدة عالميا وبين الاقتصادات الكبرى والقوية، تترك سوق الصرف للعرض والطلب وآليات السوق الحرة، فالسعر يتحرك طبقا لمعايير اقتصادية وفنية بحتة، وتتدخل السلطات النقدية فقط في حال وجود مضاربات غير مبررة على العملة، وذلك مثلما حدث في دول كبرى منها الولايات المتحدة وأوروبا ودول جنوب شرق آسيا حديثا وبريطانيا قبل سنوات. وهذه المدرسة لا تستهدف سعر محدد للعملة، ولا تشعر بأي انزعاج من حدوث تذبذب داخل سوق الصرف.

وهناك دول خليط بين كل تلك المدارس، ولذا يقع المحلل في حيرة عندما يصنف أسواق الصرف بها، وما إذا كانت عملاتها معومة بالكامل أم تعويم جزئي، أو تعويم مدار من قبل السلطات المسؤولة، أم أن السعر مدعوم، وهل تلك الدول تطبق مرونة في سعر الصرف أم حريصة على تقوية عملتها بالتدخل الإداري وعبر ضخ سيولة دولارية في الأسواق.

المدرسة الأولى ترى في تقوية عملتها المحلية إشارات إيجابية على قوة مركزها المالي، وتدفق إيرادات النقد الأجنبي على الدولة، وعدم وجود أعباء خارجية ضخمة سواء تعلقت بالديون أو الواردات، ووجود توازن بين الإيرادات والمصروفات الدولارية، وتنتمي بعض دول العالم، ومنها دول عربية، لهذه المدرسة التي تساوي أحيانا في التقديس بين علم الدولة وقيمة العملة المحلية، وتنزعج حكوماتها بشدة في حال حدوث تذبذب ولو بسيط في قيمة العملة، لأن هذا الأمر تكون له تداعيات على الاقتصاد والأسواق وسوق الصرف والاستثمارات الأجنبية والبورصة وغيرها.

وقبلها يؤثر سلبا على صورة الدولة الخارجية وأمام المستثمرين ووكالات التصنيف وأصحاب الأموال الساخنة وفق مزاعم بعض مسؤوليها، ولذا فإن هذه المدرسة تقاتل لتقوية عملة الدولة، حتى لو جاء ذلك على حساب نزيف الاحتياطي النقدي والموارد الدولارية للدولة وتكبد خسائر بمليارات الدولارات يتحملها المواطن العادي.

المدرسة الثانية تتعلق بالدول التي تعمل على خفض قيمة عملتها والتدخل في سوق الصرف بائعة للنقد الأجنبي والدولار إذا ما زادت قوة العملة المحلية عن المستوى المحدد من قبل السلطة النقدية أو السياسية. هذه الدول تتعمد فعل ذلك لأنها ترى في العملة الضعيفة مزايا مالية عدة وفرصا استثمارية وتصديرية وسياحية هائلة. ورأينا مؤخرا كيف أن الصين هددت بخفض قيمة عملتها، اليوان، لمواجهة حرب دونالد ترامب التجارية الشرسة ضد صادراتها الخارجية.

العملة الضعيفة، مع توافر احتياطي نقدي ضخم وإنتاج قوي، تلعب دورا مهما في إعادة التوازن للميزان التجاري وتقليص عجزه، وزيادة الصادرات وجذب موارد النقد الأجنبي

فالعملة الضعيفة، مع توافر احتياطي نقدي ضخم وإنتاج قوي، تلعب دورا مهما في إعادة التوازن للميزان التجاري وتقليص عجزه، وزيادة الصادرات الخارجية وجذب موارد النقد الأجنبي إلى أراضي الدولة، خاصة من أنشطة رئيسية مثل السياحة والاستثمار المباشر، وتشجيع المستثمرين الأجانب على القدوم للدولة والاستثمار بها سواء في شكل تأسيس مشروعات جديدة أو شراء أصول، بشرط أن تكون لدى الدولة القدرة على تحقيق هذه الأهداف الكبيرة وتوفير الأدوات اللازمة.

وهذه الأهداف تتيح للدولة في النهاية سيولة دولارية ضخمة تتيح لها القدرة على سداد أعباء الدولة الخارجية من ديون وفاتورة واردات ودعم سوق الصرف المحلي، ومع توافر الدولار تختفي السوق السوداء للعملة داخل الدول وتتوارى المضاربات على العملات الأجنبية، بل نجد أن النقد الأجنبي متوافر في البنوك والصرافات بغض النظر عن سعر الصرف. ومن الدول أصحاب تلك المدرسة: الصين واليابان وتركيا والعديد من دول جنوب شرق آسيا.

أما المدرسة الثالثة، وهي التي تطبق سياسة تثبيت العملة، فتنتمي إليها دول كثيرة ومنها منطقة الخليج التي تربط معظم دوله عملاتها المحلية بالدولار، وهذه المدرسة تفضل استقرار سوق الصرف الأجنبي ودعم استقرار العملة على المدى البعيد، ذلك لأن الاستقرار يحقق عدة نجاحات، الأول تفادي حدوث أي اضطرابات في أسواق الصرف، وقدرة أكبر على جذب الاستثمارات الأجنبية لسنوات طويلة، وتشجيع المستثمر على رسم خطط طويلة الأجل.

فشركات الطاقة العالمية الراغبة في ضخ مليارات الدولارات في مشروع جديد للتنقيب عن النفط والغاز داخل دول الخليج بحاجة إلى ضمان استرداد أموالها واستقرار طويل في سعر الصرف، حتى لا تخشى على استثماراتها الضخمة من تهاوي عملة الدولة التي يستثمر بها، أو تخشى من أزمات التضخم وتآكل المدخرات. ولنجاح تلك السياسة تحتاج عملات هذه الدول إلى احتياطي ضخم من النقد الأجنبي والذهب والتزامات دولارية مقبولة على الدولة وديون خارجية أقل، وربما فائض في الميزان التجاري.

المساهمون