من المشاهد المؤسفة طوال أيام العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، غير القصف وقتل النساء والأطفال واقتحام المستشفيات، اصطفاف أعداد كبيرة من الناس حول إناء طعام في الشارع مرفوع على حمّالة حديدية أو لبنات حجرية وتحته نار مشتعلة في قطع من الحطب أو الكرتون ونفايات البلاستيك، والناس يترقبون دورهم في الحصول على مغرفة واحدة من الطعام البسيط والمختلط بالدخان والشرر المتطاير، وقد يكون حساء عدس خفيفاً جداً من قلة العدس فيه، أو فاصوليا حباتها معدودة في ماء ملون بعصير الطماطم، ونادراً ما يحتوي الإناء على اللحم أو الدجاج.
أما القلة الميسورة منهم، فيعيشون على معلبات الفول والتونة، ويعانون الإمساك المزمن وسوء التغذية والجفاف، إذ لا يحصلون على الخضروات الطازجة والمطهية، كما أن مدة الاحتفاظ ببقايا محتويات المعلبات بعد فتحها تكون قصيرة جداً ويلزم حفظها في داخل الثلاجة غير الموجودة، أو تناولها بأسرع وقت ممكن وإلا فسدت.
الجوع والبرد في غزة
قبل أيام حكى أحد الفلسطينيين، لصحيفة "العربي الجديد" عن أمه المسنة، فقال إنها كانت من أصحاب الأمراض المزمنة، وكانت تعاني سوء التغذية، وخلال أيامها الأخيرة، ونتيجة المنخفض الجوي البارد، كانت تعاني البرد الشديد، وكانت العائلة عاجزة عن توفير أي أغطية أو فرش، فكانت تتحدث بصعوبة، وترتجف طوال الوقت، حتى فارقت الحياة.
وفي مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، نقل موقع "سويس إنفو" تقريراً عن "إشعال البلاستيك والحطب للتدفئة والطهي في قطاع غزة"، وصف أحد النازحين من شمال القطاع حال الجوع والبرد فيقول: "ليس لدينا طعام ولا ماء أو تدفئة، نحن نتجمّد حتى الموت".
ومن مخيم النصيرات في وسط القطاع إلى رفح، نزحت أم مع أطفالها الستة في خيمة تبعد مئات الأمتار عن البحر وتقول: "في الليل، أشعر أننا سنموت من البرد، جميعنا مرضى نعاني الرشح والسعال، ولا يوجد وسيلة للتدفئة سوى النار، لكن سعر الحطب مرتفع ولا نملك نقوداً، ونشعل النار بالبلاستيك مضطرين فنختنق من الرائحة".
إلى جوارها، يجلس ابنها ذو 14 عاماً والذي يتولى توفير البلاستيك لإشعال النار، ويقول وهو يشير إلى يديه اللتين صبغتا باللون الأسود: "أذهب هناك بالقرب من برك الصرف الصحي عند الحدود، يوجد أسفلها بلاستيك تحت الرمل، أقوم يومياً بالحفر وتقطيع البلاستيك بالسكين، ويقول غير مكترث بالجروح التي تغطي يديه نتيجة هذا العمل: "يموت إخوتي من البرد في الليل وأنا أيضاً، يجب أن نشعل أي شيء وإلا فسنتجمد".
وفي خيمة مجاورة، يعد نازح الخبز لعائلته المؤلفة من ستة أطفال، بينهم طفل من ذوي الاحتياجات الخاصة، على موقد في زاوية الخيمة على نار مشتعلة من البلاستيك فيملأ الخيمة بالدخان القاتل.
هنا تبرز أهمية الأطعمة ذاتية التسخين في إغاثة النازحين في قطاع غزة، الذين يفترسهم الجوع والصقيع والرياح والأمراض الصدرية، بعد أن خسروا منازلهم وفقدوا مخزون طعامهم وملابسهم الشتوية وأواني الطهي جراء القصف المستمر منذ السابع من أكتوبر الماضي، وأُجبروا على العيش تحت بقايا الأسقف المهدمة وفي الخيام المهلهلة والمدارس المفتوحة في ظل حصار مستمر وحرمان من الوقود والأدوية والسلع الغذائية الأساسية.
معلبات الأغذية ذاتية التسخين
في أجواء البرد والجوع والمرض والحصار التي يعيشها سكان غزة، يأتي دور المعلبات ذاتية التسخين المحتوية على الخضروات واللحم أو الدجاج والمكرونة والفاصوليا والمشروبات الساخنة، لتحدث فرقًا كبيراً في زيادة فرص بقاء الضحايا من الأطفال والمسنين والحوامل والمصابين على قيد الحياة، شأنها شأن الإغاثة بهذه التكنولوجيا في المناطق المنكوبة بالحروب والزلازل وحالات الطوارئ والمواقف الحرجة، إذ تكون الطرق التقليدية لإعداد الطعام وتسخينه منعدمة أو غير ممكنة.
ويحتاج إلى المعلبات ذاتية التسخين كل سكان القطاع وعددهم 2.3 مليون، بخاصة النازحون الذين تقدرهم الأمم المتحدة بنحو 1.9 مليون ويفتقدون الطعام والمأوى، وقدرت وكالة الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية (أوتشا) احتياجاتهم بنحو 1.2 مليون بطانية ومرتبة، وما لا يقل عن 50 ألف خيمة عائلية معدة لفصل الشتاء، وملابس شتوية، وقماش مشمع وأغطية بلاستيكية.
كنت أتوقع تزويد السكان في قطاع غزة بعبوات الأغذية ذاتية التسخين منذ اليوم الأول لفتح معبر رفح، ومن باب الاطمئنان، سألت أحد مسؤولي الإغاثة العاملين على الأرض في القطاع عن استخدامها هناك، وكانت المفاجأة التي دعتني إلى الكتابة في هذا الموضوع، بحكم تخصصي الأكاديمي، أنها لا تستخدم هناك رغم أنها معروفة في مجال تداول الأغذية أثناء الكوارث منذ زمن بعيد.
ففي عام 1897، اخترع المهندس العسكري الروسي، يفغيني فيدوروف أول علبة طعام ذاتية التسخين، وخلال الحرب العالمية الأولى، تم إنتاج علب صفيح تحتوي لحم البقر المحفوظ للقوات الروسية لأول مرة، وذلك باستخدام فكرة بسيطة وهي تفاعل أكسيد الكالسيوم أو الجير الحي والماء لتوليد الحرارة العالية جداً.
طور الباحثون تكنولوجيا التسخين الذاتي في أواخر القرن العشرين باستخدام التفاعل الطارد للحرارة في عبوات بلاستيكية غير نَفوذ وتتحمل الحرارة العالية وملتصقة بعبوة أخرى مناسبة لحفظ الأطعمة والمشروبات سابقة الطهي.
ومع تطور التكنولوجيا، وجدت عبوات التسخين الذاتي تطبيقات واسعة في أثناء الحروب والإغاثة والطوارئ، فضلاً عن ذلك، تبنّى عشاق الرحلات والتخييم عبوات التسخين الذاتي حلاً مناسباً للوجبات الساخنة أثناء رحلات التخييم والمغامرات الخارجية.
كما أن مدة صلاحية عبوات الأطعمة ذاتية التسخين طويلة، تصل إلى ثلاث سنوات. وتم تصميم عبوات التسخين الذاتي خصوصاً للتخزين طويل الأمد، مما يجعلها مثالية للتداول في ظروف الطوارئ والكوارث والحروب، وتحتفظ بجودة ونكهة محتوياتها من الأغذية لفترة طويلة. وزادت القوات العسكرية استخدامها في حصص الإعاشة الميدانية، وتزويد الجنود بوجبات ساخنة في المواقع النائية.
وبلغ حجم السوق العالمية للعبوات الغذائية ذاتية التسخين وفورية التجهيز 64.5 مليار دولار في عام 2022، ومن المتوقع أن يصل إلى 93.1 مليار دولار بحلول عام 2031، ويتوسع بمعدل نمو سنوي مركب قدره 5.2%. ولحسن الحظ، توفر هذه التكنولوجيا فرصة لمنتجي الغذاء في الدول الإسلامية لإنتاج معلبات الأطعمة ذاتية التسخين وفق متطلبات الشريعة الإسلامية، حلال، وقد لا أكون مخطئاً إذا قلت إنها لا تزال غير موجودة في هذه الدول حتى الآن.
وهناك سوق كبير للأطعمة ذاتية التسخين في موسم الحج على سبيل المثال، إذ يحتاج ملايين الحجاج إلى معلبات الخضروات واللحوم ذاتية التسخين، الحلال طبعاً، في الأماكن المقدسة، عرفة ومزدلفة ومنى. ومن الطريف أنني في موسم الحج سنة 2009، عانيت الأطعمة الجافة والنقانق غير الصحية ومعلبات التونة التي كان يوزعها المفوج على حجاج القرعة المصريين. وعندما وصلنا إلى منى، كان الطعام بارداً ومجهزاً بطريقة غير جيدة وأحياناً ملوثاً أو فاسداً. ثم تصبح معلبات الأطعمة ذاتية التسخين حلاً عملياً للحجيج.
حكى لي أحد أعضاء الهلال الأحمر، أنه كان يعاني مع فريقه الإغاثي تناوُل علب الفول والتونة فقط، أثناء مشاركته في عمليات الإغاثة في إقليم كشمير سنة 2005 ، إذ ضرب زلزال قوته 7.6 درجات شمالي باكستان وكشمير وأسفر عن مصرع أكثر من 87 ألف شخص، ما سبب مشكلات صحية وإمساكاً لأعضاء الفريق بعد أيام قليلة، وقد فشلوا في الحصول على الأطعمة الطازجة أو الأدوات للطهي في هذه المنطقة الوعرة.
وفي الوقت نفسه، لاحظ أنّ المهندسة المتخصصة في إنشاء البنية التحتية لمياه الشرب والصرف الصحي، وهي من إحدى الدول الإسكندنافية، معها عبوات أطعمة ذاتية التسخين، تحتوي على الخضروات المطهية مع اللحم والأرز، والحساء، وقد عرضت عليهم استخدام بعضها، ورحبوا بذلك، ولكنها لم تكن تحمل علامة حلال.
أهمية المعلبات ذاتية التسخين لغزة
إحدى المزايا الأساسية لمعلبات الأغذية ذاتية التسخين والمناسبة لقطاع غزة، هي قدرتها على توليد الحرارة فوراً، ودون الحاجة إلى مصادر خارجية مثل النار أو الكهرباء أو مواقد الطعام الغائبة هناك. بإضافة قليل من الماء، تسخّن هذه المعلبات المحتويات في غضون دقائق إلى درجات حرارة عالية.
كذلك سهولة نقل المعلبات وتداولها، إذ يجب أن تكون أدوات الإنقاذ والطوارئ محكمة وصغيرة الحجم، ما يسمح بسهولة النقل، ويجعلها خياراً مثالياً للغزّيين في أثناء النزوح. حجمها الصغير وقيمتها الغذائية المتوازنة والصحية والمأمونة يضمن أن توفر شاحنة واحدة لعشرة آلاف من النازحين وأطفالهم وجبات دافئة ومشروبات متاحة بسهولة أثناء النزوح وفي ظل القصف المستمر، وتعين على تحمّل البرد القارس لأوقات طويلة.
أيضاً تتميز علب التسخين الذاتي للطعام بميزات السلامة والاستخدام الآمن، حيث يتم التحكم في عملية التسخين ومراقبتها دون أي مخاطر، مما يجعلها حلاً موثوقًا طوال أوقات الحرب والنزوح هناك، ذلك أنه في سيناريوهات الإغاثة والبقاء والطوارئ، يعد الحصول على الأطعمة والمشروبات الدافئة أمراً ضرورياً للحفاظ على الطاقة والروح المعنوية، فتبرز عبوات التسخين الذاتي بديلاً لتوفر حرارة فورية، وقابلية للحمل، وعمراً افتراضياً طويلاً، وخيارات طعام متعددة الاستخدامات، وموثوقية لا مثيل لها.
وتوفر عبوات الطعام ذاتية التسخين مجموعة واسعة من خيارات الأطعمة والمشروبات التي تلبي الاحتياجات الغذائية المختلفة أثناء النزوح، من الخضروات المختلفة واللحوم والدواجن، والمكرونة والأرز والقهوة والشاي.
توفير وجبات ومشروبات ساخنة وفورية جاهزة للأكل، تعزز بلا شك الروح المعنوية والصمود وفرص البقاء على قيد الحياة في المواقف العصيبة التي يعيشها أطفال غزة ونساؤها في ظل العدوان والحصار المستمر منذ أكثر من 128 يوماً.