ترفع دورة الفائدة المصرفية المرتفعة على الدولار التي يقودها مجلس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) منذ أشهر من سعر صرف الدولار مقابل العملات الرئيسية، وتدفع تلك الدورة البنوك المركزية في اليابان وأوروبا وبريطانيا وغيرها نحو رفع الفائدة على عملاتها، وتهدد تبعاً لذلك العديد من القطاعات الحيوية الاستثمارية في العالم.
ويرى محللون أن التداعيات السالبة لرفع الفائدة على الدولار لا تقتصر فقط على الاقتصادات الناشئة وعملاتها، ولكنها تمتد لترعب المستثمرين حتى في أميركا والدول الغربية نفسها، حيث تعيد تقييم السعر الحقيقي للعديد من الأصول التي شهدت ارتفاعات ضخمة أثناء أزمة جائحة كورونا.
من بين الأصول المهددة بالفائدة المرتفعة وارتفاع سعر صرف الدولار الأصول العقارية، خاصة السكنية. ومنذ بداية العام الجاري وبداية دورة الفائدة المرتفعة في الولايات المتحدة ودول الاقتصادات الكبرى، شهدت أسعار العقارات سلسلة من التراجعات في كندا وبريطانيا والسويد والولايات المتحدة. ورصدت مؤسسات التسليف العقاري تراجع أسعار المساكن وبنسب كبيرة بمعظم الدول والعواصم الغربية.
في أميركا توقعت شركة "فريدي ماك"، كبرى شركات التسليف العقاري، في الولايات المتحدة في تقرير الأسبوع الماضي انخفاض أسعار العقارات السكنية في الولايات المتحدة بنسبة تفوق 7% خلال العام الجاري من معدل ارتفاعها القياسي في العام الماضي البالغ نسبة 17.4% إلى 10% بنهاية العام الجاري، وأن تتراجع أكثر خلال العام المقبل وربما بنسبة تقل عن 5%.
وتراجعت ثقة بناة المنازل في الولايات المتحدة لأدنى مستوى منذ ظهور وباء "كوفيد-19"، مع استمرار القلق حيال ضعف المبيعات بفعل زيادة التكلفة.
وكشفت بيانات الرابطة الوطنية لبناة المنازل، أن مؤشر ثقة بناة المنازل تراجع إلى 55 نقطة في شهر يوليو الجاري، بهبوط 12 نقطة مقارنة بالشهر الماضي.
وسجل مؤشر ثقة بناة المنازل في الولايات المتحدة أدنى مستوى منذ مايو 2020، كما شهد أكبر هبوط في شهر واحد على الإطلاق باستثناء التراجع المسجل في أبريل 2020 والبالغ 42 نقطة.
من جانبها تتوقع وكالة فيتش الأميركية تراجع مبيعات العقارات في أميركا إلى أقل من 5% خلال العام الجاري بسبب غلاء القروض العقارية وارتفاع كلف المعيشة. وربما يكون بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي يركز على خفض التضخم عبر الدولار القوي الذي سيخفض أسعار السلع المستوردة، ولكن ربما يتسبب في أضرار غير محسوبة على العقارات الأميركية.
في بريطانيا تراجعت أسعار المساكن للشهر الثالث على التوالي منذ مايو/أيار، حسب بيانات مجموعة " نيشن وايد" المصرفية العقارية، بينما تراجعت أسعار المساكن في كندا بنسبة 8% في نهاية يونيو/ حزيران هي الأخرى مقارنة بمستوياتها المرتفعة في بداية العام الجاري، وفي نيوزيلندا انخفضت الأسعار بنسبة 8% من متوسط الأسعار في العام 2021.
أما في السويد فقد بلغت نسبة التراجع 1.6% مقارنة بالأسعار في أبريل/ نيسان. ومن المتوقع أن تكون أسعار العقارات في دول أوروبا الشرقية شهدت تراجعا أكبر من 10% بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا التي باتت الخطر الذي يخيف المستثمرين من وضع أموال جديدة بالدول القريبة من روسيا والتي كانت جزءاً من الاتحاد السوفيتي المنهار في العام 1991.
وفي مدينة تورونتو الكندية تراجعت أسعار المنازل للشهر الرابع على التوالي، مع هبوط حاد للمبيعات بفعل ارتفاع تكاليف الاقتراض.
وأظهرت بيانات مجلس تورونتو للعقارات، أن متوسط سعر المنازل في أكبر مدينة في كندا تراجع 3% ليصل إلى 1.14 مليون دولار كندي (حوالي 875 ألف دولار أميركي) في شهر يونيو الماضي.
ومنذ شهر فبراير الماضي، بلغ إجمالي الهبوط في أسعار المنازل في مدينة تورونتو الكندية أكثر من 11%. وبحسب البيانات، تم بيع أقل من 6500 منزل في تورونتو في الشهر الماضي، ما يمثل هبوطا بنسبة 5% مقارنة بالشهر السابق له وتراجعا بـ41% على أساس سنوي.
ورفع البنك المركزي في كندا معدل الفائدة بشكل حاد في الأشهر الماضية، في مسعى لاحتواء التضخم المتسارع في البلاد، ما زاد من تكاليف الاقتراض لشراء المنازل.
ورغم أن البنوك المركزية تعتبر أن هبوط أسعار المساكن سيكون في صالح خفض معدل التضخم الذي تضعه الهدف الأول في سياساتها النقدية، إلا أن خبراء العقارات لا يخفون قلقهم من أن يقود الهبوط المستمر في أسعار العقارات الذي يواكب ارتفاع الأقساط العقارية وتردد المصارف في منح قروض جديدة إلى انهيارات بقطاع العقارات وربما إطلاق شرارة "أزمة مالية" جديدة لا تقل عن الأزمة المالية التي ضربت الاقتصاد العالمي في العام 2008.
وعادة ما يؤدي تراجع أسعار العقارات إلى انخفاض القوة الشرائية لدى المستهلكين بسبب مخاوفهم على تبخر الثروة التي اكتنزوها في المساكن.
وما يزيد من المخاوف التي تكتنف القطاع السكني في الاقتصادات الرأسمالية في أوروبا وأميركا أن الفائدة المرتفعة تأتي في وقت ترتفع فيه فواتير الكهرباء والتدفئة والتكييف والمواد الغذائية.
ويذكر أن فورة العقارات السكنية التي حدثت في عامي 2020 و2021، عامي جائحة كورونا حدثت بسبب خفض البنوك المركزية الكبرى الفائدة إلى قرابة الصفر وضخها تريليونات الدولارات في أسواق المال لضمان عدم انهيارها وحماية الوظائف ووقاية الشركات من مخاطر الإفلاس والتعثر.
كما ساهم في فورة العقارات السكنية خلال العامين الماضيين إلى جانب الفائدة الصفرية كذلك بحث كبار الأثرياء وصناديق الاستثمار عن" ملاذات آمنة " لأموالهم وسط مخاطر أسواق المال وأزمة العقارات الصينية التي ضربت سوق السندات السيادية للتنين.
وانتهت الفترة الخطرة من جائحة كورونا بتراكم الأموال في القطاع العقاري السكني الذي كان مجال الرهان الاستثماري الرئيسي لأصحاب المال. وحسب بيانات شركة "نايت فرانك" البريطانية المتخصصة في العقارات السكنية العالمية حقق المستثمرون في العقارات العالمية بين الربع الأول من العام 2020 والربع الأول من العام الجاري 2022 أرباحاً بلغت 19% وبعد خصم التضخم حققوا أرباحاً حقيقية بلغت 10%. وهذه المستويات من الأرباح رفعت ثروة الأثرياء بتريليونات الدولارات بينما كان الاقتصاد العالمي يئن تحت ضغوط الانكماش الاقتصادي.
على صعيد العقارات البريطانية، يتوقع مدير شركة "رايت موفز"، تيم بانستير، في تقرير تواصل تراجع أسعار العقارات في النصف الثاني من العام الجاري بسبب ارتفاع أسعار الفائدة على القروض العقارية وتشديد المصارف لشروط القرض العقاري. وتراجعت أسعار المساكن في المملكة المتحدة للشهر الثالث منذ مايو/ أيار من ارتفاعها 11.2 % إلى 10.7% بنهاية يونيو/ حزيران.
وقالت مجموعة "نيشن وايد" في تقريرها الأخير، أن الفائدة المصرفية المرتفعة وارتفاع معدل التضخم في السلع الرئيسية وكلف المعيشة ستقلل من الوفورات المالية للذين يرغبون في شراء مساكن جديدة.
يذكر أن البنك المركزي البريطاني "بنك إنكلترا" قد رفع الفائدة منذ ديسمبر / كانون الأول الماضي سعر الفائدة خمس مرات إلى 1.25% ومن المتوقع أن يواصل رفع الفائدة والضغط على ميزانية العائلات التي تدفع أقساطاً مصرفية.