دعم الشباب الجزائري وغايات السياسة

19 فبراير 2021
مشاريع الشباب تواجه العديد من الصعوبات (فرانس برس)
+ الخط -

حظيت مشاريع الشباب الجزائري بدعم مالي سخيٍّ وقروضٍ وصلت قيمة الواحد منها في العديد من الحالات إلى 80 ألف دولار من الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب، المعروفة بـ"أونساج"، والتي أصبح اسمها رسمياً "الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية" وفقاً للمرسوم التنفيذي رقم 20-329 المؤرخ في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، ليتغيَّر بذلك أيضاً هدفها من دعم الشباب في شتَّى أنواع المشاريع التجارية والاقتصادية إلى التركيز على دعم وتمويل مشاريعهم المقاولاتية على وجه التحديد.

وتنمّ هذه الخطوة التي كان يُفترض القيام بها منذ بداية الألفية الثالثة، عن الاصطدام بواقع عدم جدوى توزيع المال العام على مشاريعٍ لا طائل منها سوى الديون من جهة، وضرورة بثّ روح المقاولاتية في أوساط الشباب الجزائري لتحقيق النقلة النوعية من ذهنية الريع والاتكالية إلى ثقافة الاستثمار من جهة أخرى.

بعد إجراء عملية جرد دقيقة شملت 398 ألف مشروع مستفيد من تمويل مُقدَّم من طرف الوكالة المعروفة سابقاً بـ"أونساج"، تبيَّن أنّ أكثر من 70% منها تعاني من أزمة مالية، بحسب تصريحات الوزير المنتدب المكلّف بالمؤسسات المصغرة نسيم ضيافات، إضافة إلى وجود 90 ألف مشروع في حالة تعثُّر تام وإفلاس، ما دفع أصحابها حالياً إلى المطالبة بمسح وإسقاط ديونهم المتعثرة وعدم متابعتهم قضائياً.

لقد تعاملت حكومة الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة مع مطالب مماثلة بتساهل كبير بهدف شراء السلم الاجتماعي واستمالة الشباب مالياً وترسيخ نظام الريع، وما غرّ تلك الحكومة لاستباحة المال العام والاستهتار به والتهاون في حفظه هو الوضع المالي المريح نسبياً آنذاك والمفقود حالياً بسبب انخفاض أسعار النفط واستمرار جائحة كورونا.

لا يخفى على أحد أنّ التمويل الممنوح من قبل وكالة "أونساج" كان بمثابة أداة اقتصادية لتحقيق غايات سياسية في خضمّ ثورات الربيع العربي والتمسُّك بالكراسي على حساب المصلحة العامة التي تتعارض تماماً مع توجيه الموارد المالية المتاحة للدولة إلى مشاريع غير مجدية من الناحية الاقتصادية وبلا قيمة مضافة وإصدار قرارات تفيد بإعفاء جزئي أو كلّي من الديون المترتِّبة على المستفيدين من تمويل تلك الوكالة دون الرجوع إلى الشعب، المالك الحقيقي للمال العام.

وليس غريباً أن يسود العبث بمال الشعب والأجيال القادمة في أبشع تجلياته عندما تغيب الثنائية التي تُرعب جميع المسؤولين والمتمثلة في الشفافية والمساءلة، ويصبح تقديم المعلومات المغلوطة وإخفاء الأرقام الحقيقية لحجم الأموال التي تُصرف في غير محلها أمراً عادياً وفعلاً مألوفاً، حيث لم تتجاوز النسبة التي صرَّحت بها مديرة وكالة "أونساج" حول المؤسسات المستفيدة من تمويل الوكالة والعاجزة عن سداد ديونها الـ10%، وهذا ما كان سبباً رئيسياً في إقالتها بعدما اتَّضح أنّ النسبة الحقيقة تتخطى الـ70%، وهي نسبة صارخة تُزيح الستار عن اختلالات كبيرة وتجاوزات خطيرة وقرارات محبوكة سياسياً وسياسات غير مدروسة اقتصادياً.

وها هي وكالة "أونساج" التي فشلت في أداء مهمتها اقتصادياً، تكتسي حلّة جديدة الآن وتتزيَّن باسم جديد لتُعطي طابعاً مقاولاتياً متماشياً ظاهرياً مع خطة النهوض بالقطاعات الإنتاجية والصناعية. وما بين المظهر الجديد والجوهر القديم ستتكرَّر التجربة السابقة نفسها مع المؤسسات الصغيرة والناشئة، وكأنّ الوضعية المالية المزرية للبلاد تسمح بمزيد من التجارب والتسيُّب في إنفاق المال العام، حيث ستمنح هذه الوكالة الجديدة قروضاً قد تصل قيمتها إلى 10 ملايين دينار جزائري، أي ما يعادل 75218 دولارا، وقد أسقطت شرط البطالة في ملفات الراغبين بالحصول على الدعم، وسمحت بإعادة تمويل المؤسسات المتعثِّرة، وهذا ما يعني مواصلة استنزاف الأموال في مشاريع ليس لها أولوية ولا مردود اقتصادي سريع في الوقت الذي ينبغي فيه أن يُحسب لكل دينار يخرج ألف حساب، خصوصاً في ظل أزمة السيولة الخانقة.

كما تمَّ إنشاء صندوق للكفالة المشتركة بهدف ضمان أخطار القروض الممنوحة للشباب ومرافقة المؤسسات التي يتعذَّر عليها سداد قروضها من خلال تحصيل تلك الديون البنكية المستحقة لديها بعد تحويل الحقوق التي تحوزها البنوك إلى الصندوق، وذلك بموجب نص المرسوم التنفيذي رقم 20-330 المؤرخ في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020.

والسؤال المطروح بقوّة هنا هل هناك غطاء مالي كاف لدعم هذا الصندوق الذي يواجه نسبة تعثر تتجاوز الخطوط الحمراء والمُقدَّرة بأكثر من 70 بالمائة من المشاريع المتعثِّرة مالياً؟ أم يبقى إنشاء ذلك الصندوق مجرَّد خطوة لتجميع الديون في جهة واحدة بدلاً من وجودها في عدّة جهات.

الجزائر تقف حالياً على حافة انهيار اقتصادي كارثي لا يحتمل تحقيق غايات سياسية بأدوات اقتصادية، فأرقام المؤشرات الاقتصادية وحدها لديها حكاية رعب لتسردها على مسامع صنّاع القرار، حيث تضمَّن مشروع موازنة الجزائر لعام 2021 تخفيضاً لقيمة الدينار الجزائري يصل إلى 5 بالمائة سنوياً، ليصبح سعر صرف هذه العملة المحلية مقابل الدولار الواحد مقارباً لـِ142.20، 149.31 و156.78 ديناراً في 2021، 2022 و2023، على التوالي.

وليس غريباً أن يفقد ذلك الدينار الكثير من قيمته بشكل متسارع في ظلّ اعتماد الاقتصاد الجزائري على عائدات النفط التي تراجعت بدورها بنحو 10 مليارات دولار في سنة 2020 مقارنة بسنة 2019، وكذا جمود قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات نتيجة طريق الريع الطويل الذي تسلكه الجزائر والذي عوَّدها على استيراد حتى أعواد الثقاب وتنظيف الأسنان.

ونظراً للإفراط في الاتِّكال على الاستيراد وعدم تطوير الصادرات خارج المحروقات، انزلق احتياطي العملات الأجنبية إلى 60 مليار دولار في مارس/ آذار 2020، والذي سيصل، حسب توقُّعات الحكومة، إلى 46.84 مليار دولار في نهاية عام 2021، بالإضافة إلى العجز في الميزانية الذي سيصل إلى 22 مليار دولار في عام 2021، وفقاً لتوقّعات الحكومة، التي عادة ما تكون غير صائبة وأكثر تفاؤلاً من الأرقام الواقعية الصادمة.

خلاصة القول إنّ وكالة "أونساج"، سواء في حلّتها القديمة أو الجديدة، لن تكون إلّا وسيلة اقتصادية لرأب الصدع مع الشباب في حقل السياسة، ولن تُؤتي أكلها اقتصادياً ما لم تتوفَّر الشفافية والمساءلة والبيئة المستقرّة والملائمة للقيام بالأعمال.

المساهمون