تتعثر دولة ما مالياً وتشهد تقلباً في العملة المحلية وتضخماً مرتفعاً وركوداً في الأسواق، فتلجأ حكومتها وبسرعة إلى الدائنين الدوليين لتقترض مبالغ ضخمة، باعتبار ذلك هو الحل السهل والسريع من وجهة نظرها، وبعدها تتدهور الأحوال مالية والاقتصادية معاً.
ثم تتوسع الحكومة في الاقتراض لمكافحة التضخم وإعادة الاستقرار لسوق العملة المضطربة وتمويل عجز الموازنة المتفاقم، فتفشل في احتواء كل هذه الأزمات، ثم تفكر في الحصول على جرعات إضافية من القروض لضخها في شرايين الاقتصاد وتحقيق تعافٍ ومعدل نمو مرتفع معتمد على الاستدانة.
يتبع ذلك أو يصاحبه محاولة الحكومة جذب الأموال الساخنة والعمل على زيادة تدفقات رؤوس أموال المضاربين عبر أسعار الفائدة المرتفعة الممنوحة على أدوات الدين المحلية، ومنها الأذون والسندات، لكن هذه الأموال تهرب عند حدوث بوادر أزمة سياسية أو اقتصادية أو خفض الفائدة، وهنا تتعرض الأسواق لصدمة وتتفاقم الاختلالات الخارجية وميزان المدفوعات ويضعف دور الدولة في مواجهة الصدمات الخارجية.
ثم تفشل الحكومة في معالجة الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، وبعدها تقترض مبالغ إضافية لمحاصرة الأزمة وسداد أعباء القروض القائمة، ثم تصل الحكومة إلى مرحلة الاقتراض لسداد قروض مستحقة، إلى أن نصل إلى مرحلة أن الدولة لا تجد من يُقرضها في فترة ما، بسبب ضخامة حجم القروض الخارجية وهروب الاستثمارات والمستثمرين وسيطرة الركود على الأسواق، مع زيادة المخاطر الاقتصادية والسياسية.
هنا تتوقف الدولة عن السداد وتطالب بمزيد من الوقت لسداد الديون المستحقة على الدولة، أو الدخول في مفاوضات لتأجيل الديون القائمة، وهو ما حدث للأرجنتين التي راهن عليها كثيرون على أن تكون أحد أسرع الاقتصادات الناشئة نمواً، وذلك على غرار تجارب في أميركا اللاتينية مثل البرازيل، لكنها خيبت أمل الجميع وباتت غارقة في الديون والمشاكل المالية.
الأرجنتين عادت الآن إلى نقطة الصفر، حيث أعلنت حكومتها، اليوم الخميس، أنها ستطالب دائنيها، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي، وحائزي سنداتها الدولية بتأجيل سداد الديون الضخمة المستحقة عليها، وتوفير المزيد من الوقت لسداد ديون بقيمة 101 مليار دولار.
وفي التفاصيل، تقول الأنباء الصادرة من بيونس أيرس إن الأرجنتين تخطط لتأجيل مدفوعات دين محلي قصير الأجل مستحقة هذا العام بقيمة 7 مليارات دولار، ودين طويل الأجل بقيمة 50 مليار دولار، وتأجيل سداد قروض قدرها 44 مليار دولار صرفتها من صندوق النقد.
الأرجنتين غرقت خلال الفترة الماضية في القروض، وحكومة الرئيس الحالي موريسو ماكري تفاوضت على أكبر قرض في تاريخ صندوق النقد بقيمة 57 مليار دولار، وحصلت بالفعل عليه مقابل تعهدها بحزمة من الإصلاحات والإجراءات التقشفية من أجل منع تخلف البلاد عن سداد الديون.
ورغم هذا القرض الضخم، إلا أن ماكري وجد صعوبات في إحداث تحول جذري في الاقتصاد وترويض التضخم الجامح بسبب الديون الضخمة التي حصلت عليها حكومات سابقة، واضطرابات سوق الصرف وتراجع عملة البيزو أمام الدولار، وسيطرة الركود على الأسواق.
بل إن ماكري لم يجد دعما شعبيا في الانتخابات الأخيرة بسبب السياسة التقشفية التي طبقها ومنها زيادة الضرائب ورفع الرسوم على شركات المرافق العامة مثل المياه والكهرباء والغاز.
الأرجنتين وقعت في الفخ لأسباب كثيرة، منها ضخامة حجم القروض المستحقة عليها، خاصة قصيرة الأجل، والفوائد المستحقة عليها والتي ترهق أي اقتصاد، والخضوع لإملاءات وشروط وتعليمات صندوق النقد الدولي.
تجربة الأرجنتين درس للدول الراغبة في تنمية اقتصادياتها الوطنية أو إقامة مشروعات كبرى وبنية تحتية وغيرها عبر الاقتراض من الخارج وتجاهل الموارد الذاتية للدولة، والمثل العامي يقول "على قد لحافك مد رجليك".