قبل أيام قليلة من بدء المنتدى الاقتصادي العالمي في منتجع دافوس بجبال الألب في سويسرا، حيث يرتفع نحو 1560 متراً فوق سطح البحر، ساد مشهد مغاير تماماً لما كان يألفه العالم خلال استضافة البلد المنتدى في سنوات ماضية، إذ سيطر على سفوح الجبال العشب البني الميت، وسط طقس دافئ، غابت معه ملامح الثلوج التي كانت سائدة في مثل هذا الوقت ماضياً.
ربما يعبر هذا التغير عن تبدل الكثير من الأمور، ليس فقط على صعيد المناخ، وإنما القضايا الاقتصادية والسياسية التي يواجهها العالم اليوم، ما يجعل جدول أعمال المنتدى مزدحما بالأزمات التي تنذر باضطرابات اجتماعية كبيرة واختلال منظومة الثروة وتنذر بتفكك العلاقات الاقتصادية العالمية وفق تحذير صندوق النقد الدولي ومؤسسات دولية.
وتتزامن الاجتماعات مع تزايد المخاوف بشأن قضايا عدة، من بينها استمرار تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا على الأسواق العالمية والعلاقات الاقتصادية، والركود العالمي الذي يلوح في الأفق، وارتفاع تكاليف المعيشة، وتراجع جهود تغير المناخ ما ينذر بتزايد الكوارث الطبيعية التي كبدت الاقتصاد العالمي بالأساس مئات مليارات الدولارات خلال السنوات الأخيرة.
وتبدو كل أزمة من الأزمات المطروحة كفيلة بوضع العالم في مأزق شديد. إذ حذر صندوق النقد الدولي في تقرير له، وفق صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، أمس، من أن تراجع التعاون والتجارة الدولية يمكن أن يساهم في انكماش الاقتصاد العالمي والإضرار بالبلدان منخفضة الدخل.
توتر العلاقات التجارية
وأوضح صندوق النقد أن جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا زادتا من توتر العلاقات التجارية، التي تعاني من تعاف ضحل وغير متكافئ منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، بالإضافة إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي والتوترات التجارية المستمرة بين الولايات المتحدة والصين.
وحث على أهمية ضمان التعاون التجاري بشأن السلع العامة العالمية والمنافسة العادلة، مع الحفاظ على الحد الأدنى من التعاون من خلال الممرات الآمنة لتمكين حركة السلع والخدمات الهامة. ويأتي التقرير مع وجود مؤشرات متعددة على تباطؤ الاقتصاد العالمي بنهاية 2022 ودخوله مرحلة ركود خلال العام الجاري، تحت وطأة التضخم المرتفع وارتفاع أسعار الفائدة، إلى جانب التحديات التي سببتها الحرب في أوكرانيا وتأثيرات فيروس كورونا في الصين.
ومع تصاعد التوترات التجارية والعقوبات الاقتصادية والصراعات السياسية تبدو الاستثمارات العالمية أكثر اضطراباً، والآن يتعين على الشركات أن تعتاد على عالم لم يعد فيه حياد استراتيجي رابح، وفق تقرير لمجلة فورين بوليسي الأميركية.
ونتيجة للخلافات والتوترات الدولية التي تعم الكوكب يجد منتدى دافوس هذا العام نفسه مبحراً في مياه مضطربة، وفق محللين، فعلى مر السنين، ناقش المندوبون الذين حضروا المنتدى الاقتصادي العديد من الأزمات التي واجهت العالم، غير أنه سيكون من الصعب عليهم هذه المرة العثور على نقطة البداية لتحقيق الأهداف المعلنة للمنتدى والمتمثلة بتحسين حالة العالم.
وقبل أيام من بدء أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي الذي يستمر حتى الجمعة المقبل ويحضره نحو 2700 شخصية سياسية واقتصادية، عبّرت المديرة العامة لصندوق النقد كريستالينا غورغييفا، عن قلقها من وضع الاقتصاد، موضحة أن العام 2023 قد يشهد توتراً اجتماعياً على المستوى العالمي، بينما لم يظهر بعد تأثير تشديد السياسات المالية على التوظيف.
وقالت غورغييفا يوم الخميس الماضي "نحن في 12 يناير/كانون الثاني فقط ولدينا من الآن (نماذج) في البرازيل والبيرو وبوليفيا وكولومبيا والمملكة المتحدة، وكل ذلك لأسباب مختلفة ولكن مع توترات اجتماعية واضحة جدا". وإذا كان ارتفاع أسعار الفائدة سيؤثر في نهاية المطاف على أسواق العمل وهي نتيجة منطقية لهدف التباطؤ، فقد يؤدي ذلك إلى توترات إضافية، على حد قولها.
العمال يدفعون الثمن
وأمس الاثنين، حذرت منظمة العمل الدولية في تقرير نشرته على موقعها الإلكتروني، من أن المزيد من العمال سيضطرون لقبول وظائف أقل جودة وذات أجور متدنية مع ساعات عمل أطول هذا العام نتيجة التباطؤ الاقتصادي العالمي.
وأشارت المنظمة التي تتخذ من جنيف مقراً لها في تقييمها الأخير لحالة سوق العمل، إلى أن حالة عدم اليقين "المرتفعة والمستمرة" بشأن حالة الاقتصاد العالمي تؤدي إلى انخفاض الاستثمار في الأعمال التجارية، وتآكل الأجور الحقيقية ودفع العمال إلى العمل غير الرسمي.
وتعاني الاقتصادات في جميع أنحاء العالم نتيجة للتوترات الجيوسياسية، بما في ذلك الحرب الروسية في أوكرانيا، فضلاً عن اختناقات سلسلة التوريد والتعافي غير المتكافئ من أزمة كورونا. وأدت هذه الظروف معاً إلى معاناة الاقتصادات المختلفة من تضخم فاحش ونمو منخفض لأول مرة منذ السبعينيات.
ووفق منظمة العمل الدولية، فإن تكلفة المعيشة المرتفعة، التي فشلت في الدخول في مواكبتها، تدفع الناس أيضاً إلى الفقر المطلق أو النسبي في جميع أنحاء العالم. وأدى تضخم الأسعار إلى خفض الطلب على السلع والخدمات من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، مما يهدد التوظيف.
وأشارت إلى أن "التقدم المحرز في الحد من الفقر خلال العقد الماضي قد تعثر إلى حد كبير، والتقارب في مستويات المعيشة وجودة العمل آخذ في التوقف مع تباطؤ نمو الإنتاجية في جميع أنحاء العالم"، مشددة على ضرورة "معالجة الأزمات المتشابكة التي نواجهها" من أجل الحفاظ على القوة الشرائية ورفاهية الإنسان.
لكن صندوق النقد الدولي يرسم صورة قاتمة لما هو آت، إذ قالت مديرة الصندوق إن الوضع لن يتحسن قريباً بسبب "التضخم الذي لا يزال صلباً" وفي مواجهته "لم ينته عمل المصارف المركزية بعد"، مشددة على أن "الأزمة لم تنته بعد على الأرجح".
وبالنسبة للبلدان ذات المديونية المرتفعة والتي يتم تصنيف إصداراتها بالدولار، ستكون الآثار كبيرة، خاصة عندما يضاف إلى ذلك تخفيض قيمة العملة، ما يؤدي إلى صعوبات كبيرة للسكان.
حضور متزايد لأباطرة المال
وبينما تتعاظم المخاوف من اتساع رقعة الفقر والاضطرابات الاجتماعية في الكثير من البلدان النامية، تتزايد الانتقادات للثراء الفاحش الذي يتعاظم في البلدان الغنية وامتلاء خزائن أباطرة المال على حساب الأزمات العالمية. وذكرت منظمة أوكسفام غير الحكومية في تقرير نُشر تزامنا مع افتتاح دافوس، أمس، أن "أغنى 1% من البشر قد استحوذوا على ما يقارب ثلثي جميع الثروات الجديدة التي تبلغ قيمتها 42 تريليون دولار التي جُمعت منذ عام 2020، أي ضعف الأموال التي كسبها 7 مليارات شخص يشكلون 99% من سكان العالم".
وبسبب الارتفاع في الأسعار في البورصات، زادت الثروات الضخمة بشكل كبير خلال السنوات العشر الماضية: فمن أصل كل 100 دولار جديد جرى تحقيقه، ذهب 54.4 دولارا إلى جيوب أكبر الأغنياء الذين يمثلون 1% من البشر، بينما ذهب 70 سنتا فقط إلى الفئات الأفقر التي تشكل 50%، كما ذكرت المنظمة غير الحكومية.
وضاعف أصحاب المليارات ثرواتهم، مع ازدياد عددهم أيضا على ما أكدت منظمة أوكسفام التي تحضر مديرتها العامة غابرييلا بوشيه منتدى دافوس. وقالت بوشيه إن "فرض الضرائب على أصحاب الثراء الفاحش هو الشرط الاستراتيجي لتقليص اللامساواة وإعادة إحياء الديمقراطية.. نحن بحاجة إلى فعل ذلك من أجل خدمات عامة أقوى، ومن أجل مجتمعات أكثر سعادة وصحة، ولمعالجة أزمة المناخ، من خلال الاستثمار في الحلول التي تواجه الانبعاثات الجنونية لأغنى الأثرياء".
وقالت أوكسفام :"لقد حان الوقت لهدم الأسطورة الملائمة القائلة بأن التخفيضات الضريبية للأغنياء تؤدي إلى تقاطر ثرواتهم بطريقة أو بأخرى إلى الآخرين، فقد أظهرت أربعون عاماً من التخفيضات الضريبية للأثرياء أن المدّ لا يرفع جميع السفن وإنما يرفع اليخوت الفارهة فقط".
وهناك نحو 116 مليارديراً سجلوا حضورهم في منتدى دافوس هذا العام، بزيادة 40% عما كان عليه الحال قبل عقد على الرغم من غياب تام لأصحاب المليارات من روسيا والصين بسبب الحرب و"كوفيد ـ 19"، إذ تعكس قائمة الضيوف من المليارديرات الاضطرابات العالمية التي أعادت تشكيل الثروات، وغيّرت مراكز القوى وسط الحرب والوباء وارتفاع التضخم.
ويمثل الأميركيون كالعادة أكبر مجموعة، إذ من المقرر حضور 33 مليارديراً أميركياً، من بينهم عمالقة شركات لم يحضروا المنتدى العام الماضي، والذي تأجل إلى شهر مايو/أيار. وتتمتع "وول ستريت" تحديداً بتمثيل جيد، إذ تشمل قائمة الضيوف جيمي ديمون الرئيس التنفيذي لبنك الاستثمار "جيه بي مورغان"، ولاري فينك من "بلاك روك" لإدارة الاستثمار، وستيف شوارتزمان من "بلاكستون" للخدمات المالية. ولولا أسواق العالم المتراجعة لكان إجمالي عدد الحاضرين أكبر من ذلك، وفق تقرير لوكالة بلومبيرغ الأميركية.