استمع إلى الملخص
- **تراجع الوجود الاقتصادي الفرنسي في الجزائر**: منذ 2019، شهدت الشركات الفرنسية تراجعاً ملحوظاً في الجزائر، مع خروج شركات كبرى مثل "رينو" و"توتال".
- **زيادة اعتماد فرنسا على الطاقة الجزائرية**: رغم التوترات، ارتفعت المبادلات التجارية بين البلدين إلى 11.8 مليار يورو في 2023، مع زيادة واردات المحروقات الجزائرية بنسبة 15.3%.
بعد سحب الجزائر سفيرها من باريس قبل أيام، على خلفية إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون دعمه لمقترح الرباط للحكم الذاتي بما هو قاعدة وحيدة لحل النزاع في الصحراء، تتجه العلاقات الاقتصادية الجزائرية الفرنسية، المتأزمة أصلاً منذ عدة سنوات، نحو نفق مظلم، على شاكلة ما حدث مع إسبانيا قبل عامين والتي وصلت إلى حد القطيعة التجارية.
والملاحظ هذه المرة أن الجزائر أعلنت "سحب" سفيرها من باريس، ولم يتم استدعاؤه للتشاور، كما حدث في مرات عديدة على غرار تصريحات ماكرون المثيرة للجدل في خريف 2021 التي اعتبرت مسيئة لتاريخ البلد العربي، أو حادثة "تهريب" الناشطة المثيرة للجدل أميرة بوراوي إلى فرنسا في 2023.
وعقب القرار الفرنسي قالت صحيفة الشروق واسعة الانتشار في البلاد إن اتخاذ إجراءات عقابية إضافية ضد فرنسا غير مستبعد نظير موقفها من قضية الصحراء.
كما ذكر وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، في مؤتمر صحافي، أن الحكومة الجزائرية قد تلجأ إلى "الخطوات اللازمة" في وقتها، وشدد على أن "الحكومة بصدد استنتاج كل ما يمكن استنتاجه من الحكومة الفرنسية وسنقوم بالخطوات اللازمة التي نعبّر من خلالها عن رفضنا إقدام فرنسا على خطوة دعم مخطط الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية المزعومة".
نحو توتر اقتصادي وتجاري حاد
في هذا السياق، يعتقد مدير الهجرة سابقاً بوزارة الداخلية الجزائرية، وخبير القضايا الاستراتيجية، حسان قاسيمي، أن التطورات الأخيرة في العلاقات الجزائرية الفرنسية، تنذر بفتح جبهة أزمات جديدة متعددة الآفاق والأبعاد، وسننتقل حسبه، من التوتر السياسي والدبلوماسي إلى أزمة اقتصادية وتجارية يرجح أن تكون حادة جداً.
وشدد حسان قاسيمي، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، على أن الموقف الفرنسي الأخير باعتبار مقترح الحكم الذاتي قاعدة وحيد لحل النزاع في الصحراء، قرار خطير ومنعرج جديد ستكون له تداعيات سياسية ودبلوماسية، ولكن أيضاً على الصعيد التجاري والاقتصادي.
ورجح مدير الهجرة سابقاً بوزارة الداخلية الجزائرية أن يعقد المجلس الأعلى للأمن اجتماعاً عما قريب، لدراسة كافة الاحتمالات والسيناريوهات، ولكن أيضاً لاتخاذ الإجراءات المناسبة.
وقال في هذا الصدد: "من الإجراءات الميدانية التي يمكن أن تتخذها الجزائر هو تخفيف كبير جدا للعلاقات التجارية والاقتصادية بين البلدين". أما النقطة الثانية حسبه، فتتعلق وفقه بإمكانية غلق كافة الاستثمارات الفرنسية على اختلافها على مستوى التراب الوطني الجزائري بما فيها الصحراء، وهو ما سيشكل، وفق قاسيمي، ضربة موجعة وقاسية لفرنسا.
ويمكن أن تمتد العقوبات، بحسب خبير القضايا الإستراتيجية، إلى ملف الطاقة، وخصوصاً ما تعلق بالنفط والغاز، وإمكانية تحديد (تسقيف) الكميات الموجهة إلى فرنسا، خصوصاً أن باريس طلبت فيما مضى زيادة إمدادات الغاز الجزائرية.
ووفق بيانات نشرها مجلس الشيوخ الفرنسي مؤخرا، فإن إمدادات الغاز الجزائرية غطت ما نسبته 14% من حاجيات فرنسا في عام 2023، صعوداً من 8% قبل الحرب الروسية الأوكرانية.
ومن تبعات القرار الفرنسي، يؤكد قاسيمي، ما يتعلق بالتعاون في ملف الهجرة، إذ يرتقب أن توقف الجزائر كافة الاتصالات والمشاورات في هذا الشأن، وأيضاً عمليات ترحيل المهاجرين الجزائريين الموجودين على التراب الفرنسي بصفة غير نظامية. وخلص الخبير قاسيمي إلى أن السلطات الجزائرية تمتلك عدة أوراق وستكون لها قرارات حاسمة بما يحفظ مصالحها الإستراتيجية الإقليمية والدولية.
انحسار اقتصادي فرنسي في عهد تبون
منذ صعود الرئيس الجزائري الحالي عبد المجيد تبون إلى سدة الحكم نهاية 2019، لوحظ تراجع لافت للوجود الاقتصادي الفرنسي في البلاد، مقابل تعزز الشراكة مع دول أخرى، على غرار إيطاليا وتركيا والصين. ووصفت السنوات الماضية على أنها "خريف" طاول الشركات الفرنسية الموجودة بالجزائر، بعد نحو عقدين من الهيمنة في حقبة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة. فقد غادرت شركة "سياز" الجزائر عام 2021، وكانت مسؤولة عن إدارة المياه والصرف الصحي بالعاصمة وولاية تيبازة الساحلية المجاورة، بعقد امتد من 2006 وتم تجديده عدة مرات.
وخريف 2020 غادرت الجزائر شركة "راتيبي باريس" الفرنسية المكلفة بتسيير وصيانة مترو أنفاق العاصمة منذ عام 2011، بعد أن قررت السلطات الجزائرية عدم تجديد عقدها الذي بدأ عام 2011. وأوضحت مؤسسة مترو الجزائر (حكومية)، في بيان حينها، أن عقد تسيير وصيانة مترو الأنفاق مع شركة "راتيبي باريس"، ينتهي رسميا في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2020. كما أن مصنع العلامة الفرنسية "رينو" للسيارات بولاية وهران الساحلية غربي الجزائر في حالة جمود كلي منذ نحو أربع سنوات.
وعلى نفس المنوال، غادر بنك القرض الفلاحي "كريدي أغريكول" الفرنسي الجزائر عام 2021، بعد أن سحب البنك المركزي الجزائري رخصة نشاطه بعد دخوله البلاد عام 2007. وفي عهد تبون أيضاً، منعت السلطات الجزائرية استحواذ شركة توتال الفرنسية على أصول أناداركو الأميركية التي انتقلت إلى أوكسيدنتال بيتروليوم حينها.
وأشهرت الجزائر "فيتو" من خلال اللجوء إلى حق الشفعة بموجب قانون المحروقات، وبذلك رفضت الصفقة بالكامل في شقها الجزائري، بالنظر إلى أن "توتال" الفرنسية اشترت أصول أناداركو الأميركية في كامل القارة الأفريقية.
وفي 2023 خرجت أيضاً "توتال" الفرنسية من مشروع مصنع بيتروكيماويات ضخم في وهران غربي الجزائر بالشراكة مع سوناطراك، وقرر الطرف الجزائري مواصلة المشروع لوحده، وأسند عملية البناء إلى مجمع صيني بريطاني بقيمة 1.5 مليار دولار.
وتشهد العلاقات التجارية تأزماً متكرراً خلال السنوات الماضية وفي قطاعات عديدة، منها استيراد الحبوب، إذ قررت وزارة الفلاحة في الجزائر في عام 2021 تغيير دفتر الشروط الخاص باستيراد الحبوب والبقوليات الجافة، من خلال تعديل بعض المواد، التي تبين أنها كانت "مصممة" خصيصاً لمنح أفضلية للمورّدين الفرنسيين، وتمكينهم من احتكار السوق المحلية. وأكدت وكالة "إكونومستروم" في تقرير سابق أن الصادرات الفرنسية من القمح سجّلت سقوطاً حراً، لصالح الصادرات الروسية، في الجزائر. وتراجعت قيمة واردات الجزائر من الحبوب الفرنسية، لا سيما القمح، من 834 مليون يورو سنة 2022، إلى 166 مليون يورو، سنة 2023، وفقاً لبيانات فرنسية رسمية. وتُقدّر نسبة تهاوي صادرات القمح الفرنسية نحو الجزائر بنحو 80% في ظرف سنة.
زيادة اعتماد باريس على طاقة الجزائر
ووفق بيانات رسمية للحكومة الفرنسية، بلغت المبادلات التجارية بين البلدين 11.8 مليار يورو في 2023، بارتفاع قدره 5.3%، صعوداً من 11.2 مليار يورو في 2022. وعزت الحكومة الفرنسية ارتفاع المبادلات البينية بشكل أساسي إلى زيادة وارداتها من الجزائر بـ 8% (7.3 مليارات يورو)، مدفوعة بواردات المحروقات.
تشهد العلاقات التجارية تأزماً متكرراً خلال السنوات الماضية وفي قطاعات عديدة
وارتفعت صادرات المحروقات الجزائرية إلى فرنسا بنسبة 15.3% لتصل إلى ستة مليارات يورو (13% من صادرات المحروقات الجزائرية التي بلغت قيمتها 50 مليار دولار في عام 2023)، منها 51.8% غاز بجميع أشكاله و48.2% نفط خام. وتأتي هذه الزيادة في صادرات النفط والغاز الجزائري إلى فرنسا في وقت قررت فيه دول الاتحاد الأوروبي تقليل اعتمادها على الغاز الروسي، بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا في فبراير شباط 2022. ولتحقيق ذلك، لجأت دول مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وحتى ألمانيا إلى الجزائر لتأمين إمداداتها من الطاقة. أما صادرات باريس نحو الجزائر فقد شهدت في عام 2023 انكماشاً طفيفاً بحسب الحكومة الفرنسية، وسجلت 4.49 مليارات يورو عام 2023، مقارنة بـ 4.51 مليارات يورو في 2022.