حوار أفلاطوني حول الحرب الأخيرة

19 أكتوبر 2023
إسرائيل دولة هشة رغم كل ادعاءاتها بالقوة العسكرية (الإعلام العسكري للمقاومة الفلسطينية)
+ الخط -

مثلما فوجئ العالم بالهجمة الحمساوية الغزية على غلاف غزة بجنودها ومستعمراتها وتكنولوجياتها، فقد فوجئ العالم لاحقاً بحجم الهجمة الإسرائيلية الارتدادية، وبحجم التأييد الذي تلقته من الولايات المتحدة وأوروبا، ومن صمت الكثيرين ممن كان يفترض بهم أن يناصروا الفلسطينيين ولو بألسنتهم أو بأضعف الإيمان وهو صمتهم. ولم يسلم أهل غزة ولا الفلسطينيون، ولا حتى العرب والمسلمون من تهمة الإرهاب ومن الهجوم الشرس على سمعتهم. وعدنا بعدها إلى أيام الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، وأجواء الكراهية التي نجمت عنها.

ولو وضعنا ما جرى حتى كتابة هذه السطور بعد عشرة أيام من بداية المعركة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر في ميزان التقييم، فما الذي يمكن أن نقوله، ولكي نفعل ذلك، فإننا يمكن أن نسأل سؤالاً مغايراً للحدث التاريخي وهو " لو أن حركة حماس استقبلت من أمرها ما استدبرت فهل كانت ستشن ذلك الهجوم؟" لو أن القائد إسماعيل هنية ومناضليه علموا بحجم الخسائر التي ستنتج عن ذلك ورأوها رؤية العين، فهل كانوا سيقومون بما قاموا به؟

وإنني واثق أن هذا السؤال يراود الكثيرين، ولكن الوقت ليس وقته. وآخرون يرون فيه انهزامية وفرصة لكي يتشفوا وينكأوا الجراح. ولكن السؤال رغم الألم الناتج عن "رش الملح" ضروري أن يثار ومهم بسبب حجم الأثر الذي أحدثته هذه الحرب اللاإنسانية على كل من له علاقة مباشرة بها؟

ولكي نصل إلى عمق الإجابة عن السؤال دعونا نفترض أن أحد قادة حماس أو الجهاد الإسلامي تصدى لهذه المهمة، فما عساه يقول؟ سيقول بالطبع إن هذه الحملة قد آتت أكلها، وأنبتت سنابل وزهوراً في مرج القضية الفلسطينية التي همشت، وصارت واحدة من الملفات التي تكاثر على جلدها الغبار والصدفية، وآن الأوان لإعادة إحيائها، ورفعها إلى المقدمة. وقد حصل هذا الأمر.

والأمر الثاني أنها كشفت زيف التعامل مع الغرب برمته. فهو وإن تدثر بعباءة الثعلب المكار ولبس ثياب الناسكين، إلا أنه متى سنحت له الفرصة أظهر حقيقة مشاعره حيالنا، وأفرغ سمومة فينا. وعلينا أن نكون حذرين.

والأمر الثالث أن إسرائيل دولة في حقيقتها هشة رغم كل ادعاءاتها بالقوة العسكرية والأمنية والسيبرانية، ولكنك لو مسحت الطبقة اللامعة الصفراء عنها لرأيت أنها مصنوعة من الذهب الكاذب، ولا تساوي قيمتها صحة الروايات التلمودية التي بنيت على أساسها وروجت لها الحركة الصهيونية وما تزال منذ القرن التاسع عشر. فعلام كل هذا الخوف منها، والتقرب إليها؟

والأمر الرابع، لقد ثبت لنا بالدليل القاطع أنها دولة لا تريد السلام، ولا تريد الحل، بل تريد تصفية القضية وحتى شعبها إن استطاعت، وأن تستولي على مقدرات الأمة. وإذا لم تشعل نار الحرب والمقاومة بين الفينة والأخرى، فإن إسرائيل ستتمكن من الأرض ومن رقاب الناس. انظروا إلى ما تفعله على أرض الواقع في القدس وباقي الأراضي المحتلة.

والأمر الخامس هو أن هذه هي الحرب السابعة بيننا وبين إسرائيل، وقد تطورت قدراتنا القتالية منذ أول حرب عام 2006 حتى هذه الحرب عام 2023. وكيف ستحرر فلسطين إن لم نظهر مقاومة لعدونا؟

أما الضحايا من الشهداء والأطفال والنساء والشيوخ فهو قدرنا. مكتوب على هؤلاء الشهادة حتى يبقى المقاتلون. نحن نحارب بأسلحة العقل وما نستطيع صنعه تحت الحصار الحديدي الذي نعيش فيه، أما عدونا فيده طائلة لكل الأسلحة الثمينة الفتاكة. فمن الواضح أن تضحياتنا البشرية ستكون أكثر. وخسارة حرب أو ربحها ليست إلا حلقة في سلسلة طويلة لن تهدأ حتى ننال حقنا الكامل في حياة كريمة ودولة مستقلة قابلة للحياة وعاصمتها القدس الشرقية. أم هل ظننتم أن الحرب سوف تكسب مع العدو وأنصاره بالمداهنة والمحاورة؟

ولو افترضنا أن أحداً من المواطنين العرب الذين يتأثرون بمشاهد الألم والموت والجثث المسجاة غير معروفة الهوية، ومن شكوى الأطباء في المستشفيات من نقص الإسناد البشري واللوجستي والدوائي والعلاجي فسيقول لماذا لم تتوقعوا ردة الفعل هذه؟ ألم تحسبوا حساب القوات الإسرائيلية، ومدى ردة فعلها؟ أما كفانا خسراناً وألماً؟ ما فائدة الاستمرار في حروب تكبد كل هذا الألم؟

والأمر الثاني كيف تتجاهل حقيقة ما نعرفه أن الغرب سوف يهب هبة واحدة ضدنا؟ لو كانت إسرائيل تعتمد على نفسها لفهمنا منطق المقاومة والحرب، ولكن إسرائيل ومن خلفها الرأسمالية العالمية والرأسمالية اليهودية والإعلام الذي يمتلكونه ستحتشد كلها لصالح إسرائيل؟ وأنتم أيها المقاومون الشرفاء هل أخذتم هذا في الحسبان؟

والأمر الثالث ماذا تتوقعون أن يحصل لسكان غزة وقد دمرت بيوتهم ومرافقهم، وانقطعت عنهم أسباب العيش وأدواته، وأنهم محاصرون لا يستطيعون الحصول على الماء والطعام والكهرباء إلا إذا سمحت إسرائيل بذلك عبر المعابر التي تتحكم بها؟

والأمر الرابع كيف تتجاهلون الحقيقة أن إسرائيل هي أداة ووسيلة لخدمة الرأسمالية الاحتكارية. فالغاز الموجود في البحر المتوسط مطلوب كله من أجل تزويد أوروبا به، ومن ثم كسب ورقة تفاوض رابحة في المفاوضات مع روسيا المزود الأكبر لأوروبا بالغاز؟

والأمر الخامس ألا يكفينا حسرة ما جرى لكثير من الدول العربية التي كانت تتمتع بالمقومات الأساسية بمواردها وسكانها ومياهها؟ هناك دول تقسمت حكماً وتبعثرت قواتها وخسرت أجيالاً ضائعة وأنتم تعرفونها. وهناك دول فقدت جزءاً كبيراً من ثروتها المائية في النيل والفرات ودجلة والأردن؟ وهناك مليارات الدولارات من الأرصدة والاستثمارات العربية الموجودة لدى البنوك الغربية والقابلة للمصادرة والتجميد في أي لحظة؟

وأخيراً وليس آخراً، كيف لنا أن نتجاهل أهمية الوطن العربي بموقعه الجيوسياسي، وممراته الأهم لتدفق التبادل التجاري في العالم، وكيف ننسى أن الدول العظمى تتصارع في منطقتنا لكسب النفوذ فيها وعدم السماح للقوة العظمى الأخرى بالتكسب منها؟ وهل من المعقول ونحن نرى الولايات المتحدة تحشد الجيوش في منطقتنا، وتعيد موضعتها لتزيد من رجالها وعتادها عندنا أن نعتقد أننا نملك الحرية لمقاومة إسرائيل وكسر هيبتها؟

النقاش على الجانبين مفيد بعد انتهاء هذه الحرب المأساوية. ولكن النتائج التي ستتمخض منها هو أن إسرائيل لن تشعر بالأمن، ولربما يغادرها كثير من سكانها المبدعين لكي تبقى ساحة مفتوحة للمتطرفين والمتدينين الذين يسعون لحياة مجانية دون مقابل. وهؤلاء هم السوس الذي سينخر في شجرة إسرائيل.

ولربما ينتهي نتنياهو وأشكاله من العمل السياسي ويحال هو إلى المحاكمة، ولكن إسرائيل تلد أمثاله إن سقط. والسؤال المهم هنا لو حصل هذا الأمر وسقطت الحكومة الحالية، فهل سيكون خَلَفُهم من أمثال غانتس ولبيد ( Gants and Lapid) أهون شراً لو وقعت حرب جديدة في الأعوام القادمة؟

على العرب ألا يوقفوا المقاومة، وعلى الفلسطينيين خاصة أن يوقنوا أن الجيل الصاعد من الشعب الفلسطيني سواء على الأرض أو في الشتات هو أكثر حماسة وتوقاً لفلسطين وأرضها ومقدساتها وجمالها. بل إنهم مفتونون بها. وسوف يظلون متمسكين بذلك.

ما فعلته حماس والمقاومة في حربها الأخيرة يستحق الدراسة والتأمل. وحتى يكون الدم الفلسطيني الغالي الذي سفح على أرض غزة حياً نابضاً وثابتاً. فلا بد من أن يسود العقل على العاطفة، وأن تبقى العاطفة حية حتى لا ننسى، ولكن العقل هو المطلوب عند المعركة وعند استحقاقها.

الحروب الحالية في غزة لها طعم ومذاق مختلف عن الحروب السابقة. والدروس المستفادة منها أعطتنا الأمل رغم الألم. والأيام والسنون القادمة تحمل في طياتها ثمرة تلك الحرب حينما تصبح ناضجة وقابلة للقطف.

المساهمون