حكومة تونسية جديدة... ابحث عن أزمات الاقتصاد والخبز والتمويل

03 اغسطس 2023
تونسي يحمل كميات من الخبز الذي يشهد شحاً كبيراً خلال الفترة الأخيرة (Getty)
+ الخط -

تأتي الإطاحة برئيسة الحكومة التونسية نجلاء بودن، وتعيين أحمد الحشاني خلفاً لها، أول من أمس، وسط أزمات معيشية خانقة في البلاد، أبرزها شح الخبز والغلاء الفاحش وشح التمويلات. وباتت الملفات الاقتصادية المعقدة من أبرز التحديات أمام الحكومة الجديدة بعد فشل حكومة بودن التي تولت مهامها في 29 سبتمبر/ أيلول 2021، إثر انقلاب 25 تموز/ يوليو 2021.
وتدهورت أوضاع التونسيين في كافة النواحي المعيشية لدرجة أن الخبز لم يعد تلك المادة الأساسية المتاحة لكل شرائح المجتمع، حيث تضيق حلقات أزمة التزويد من يوم إلى آخر بعدما أعلن ما يزيد عن 1400 مخبز عن وقف نشاطها بشكل كامل نتيجة عدم توفر المواد الأساسية من الدقيق، بينما تحاول السلطات توفير التمويلات اللازمة لضمان سداد فاتورة توريد الحبوب الثقيلة، وهي التي تعيش أزمة مالية خانقة تتصاعد يوما بعد يوم.

وبسبب جائحة الجفاف هذا العام وخسارة نحو 80 بالمائة من محصول الحبوب، ستعوّل تونس بشكل كامل على الحبوب الموردة لتأمين غذاء 12 مليون تونسي يعتبرون الخبز المادة الحيوية الرئيسية على موائدهم.

تضخم النفقات
تؤدي واردات الحبوب إلى تضخم نفقات التوريد بينما تعاني البلاد من شح الموارد بالعملة الصعبة وتعطّل آليات الاقتراض مع تعثر صندوق قرض صندوق النقد الدولي وعدم قدرة السلطات على الخروج للأسواق العالمية لتعبئة موارد قد تفوق نسبة فائدتها الـ20 بالمائة بعدما هوى التصنيف السيادي إلى أسفل الدرجات التي وصلت إلى CCC-.

وبات خبز التونسيين منذ أشهر رهين توفر المادة الأولية من دقيق القمح اللين بدرجة أساسية والقمح الصلب بدرجة أقل.
وتسعى سلطات تونس إلى السيطرة على أزمة الخبز عبر تحريك دبلوماسيتها في اتجاه البحث عن الدعم المالي وشراء القمح بأسعار تفاضلية.

أما داخليا فشنت حكومة نجلاء بودن حملة مراقبة واسعة على المخابز التي تصنع الخبز غير المدعم أدت إلى إيقاف نشاط 95 بالمائة من الأفران غير المصنفة وفق مصادر مهنية. وطلب الرئيس التونسي قيس سعيد في لقاء جمعه برئيسة الحكومة السابقة نجلاء بودن ووزيرة المالية سهام البوغديري، يوم 27 يوليو/ تموز، بضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لأزمة الخبز الحاصلة، مؤكّدا أنّ "الخبز خطّ أحمر بالنسبة للتونسيين".

وتابع، وفق مقطع فيديو تم نشره على الصفحة الرسمية للرئاسة: "اليوم أصبح هناك خبز للفقراء وخبز للأثرياء وكأنّها طريقة ملتوية لرفع الدعم عن الحبوب... هناك خبز واحد للتونسيين، وينتهي الأمر".
وتزامن حديث سعيد عن أزمة الخبز مع مساع يقودها وزير الخارجية والهجرة والتونسيين بالخارج نبيل عمار من أجل ضمان حصة واردات قمح لفائدة بلاده بأسعار تفضيلية بسبب الأزمة المالية التي تعبر بها تونس وجائحة الجفاف.

وطلب عمار، أثناء محادثات ثنائية جمعته برئيس الجمهورية الاتحادية بـ"تتارستان" رستم مينيخانوف، دعم مسعى بلاده في الحصول على أسعار تفضيلية للحبوب وذلك على هامش المنتدى الاقتصادي والإنساني المجتمع في موسكو.

ومنذ أشهر يتراجع عرض الخبز في أسواق التونسيين بينما أطلقت المخابز العنان للأسعار تحت حجة تحرير الأسعار بالأفران التي لا تحصل على الدقيق المدعم، ما تسبب في تحميل ضعاف ومتوسطي الدخل نفقات إضافية من أجل توفير الخبز الذي يشكل الغذاء الأساسي للتونسيين.

إيقاف المخابز
أكّد رئيس المجمع المهني الوطني للمخابز العصرية بمنظمة "كوناكت" محمد الجمالي أن المخابز التابعة للمجمع بكامل البلاد التزمت بقرار إيقاف النشاط بداية من غرة أغسطس/ آب بسبب منعها من التزود بالمواد الأولية بدعوى مكافحة المضاربة بالأسعار.

وقال الجمالي في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ قرار توقف المخابز غير المصنفة عن النشاط أصبح إجباريا، مؤكدا عدم قدرة المهنيين على الالتزام بالسعر الحكومي للخبز نظرا لتزود المخابز بالدقيق من هذا الصنف غير المدعم والأعلى ثمنا.

وتابع الجمالي: "بأمر من وزارة التجارة مُنعت المطاحن والأفران غير المصنفة من التزود بالمواد الأولية من دقيق القمح اللين والصلب". ووفق المتحدث، يشارك 1474 مخبزا غير مصنف في صناعة خبز التونسيين، غير أن استمرار نشاطها بات مرتبطا بتوفر المواد الأولية. وتابع: "التوقف عن النشاط يأتي استجابة لخطاب الرئيس قيس سعيد الذي أكد فيه ضرورة أن يوجد ''خبز واحد في البلاد وهو الخبز المدعم''. لكن أزمة التزويد بالمواد الأولية مرتبطة بحسب خبراء ومختصين في الاقتصاد بارتفاع أسعار الحبوب في الأسواق العالمية ونقص موارد الدولة بالعملة الصعبة حيث بات خبز التونسيين مرتهنا للتمويلات الدولية الشحيحة. كما تلوح في الأفق مخاوف من آثار محتملة لعودة أزمة تصدير الحبوب بعد انسحاب روسيا من اتفاقية تصديرها، وهو ما أشعل الأسعار خاصة مادة القمح.

أزمات الاستيراد
تُعتبر تونس كمعظم دول المنطقة من الدول المستوردة الكبرى للحبوب وهو ما يجعلها عرضة لأزمات التزويد بهذه المنتجات الحيوية. ويقول الخبير الاقتصادي خالد النوري إن "تونس أصبحت تعاني أكثر في خضم أزمة الحبوب العالمية التي أدت لتراجع العرض من الدقيق المخصص لصناعة الخبز".

وأفاد النوري في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأن توريد الحبوب مرتبط بحصول تونس على القروض والتمويلات الخارجية لضمان تسيير المناقصات وتسديد فواتير المزودين والتجار الذين يحتكمون إلى بورصة عالمية لا مكان فيها للأسعار التفاضلية.

وأشار الخبير الاقتصادي إلى أن أزمة التموين في تونس ازدادت حدة عقب إصدار الرئيس سعيد المرسوم المتعلق بمكافحة الاحتكار، الأمر الذي تسبب في انهيار منظومات التخزين خوفا من العقوبات والاتهامات بالمضاربة في الغذاء. وأوضح أن تدمير منظومة التخزين من الأسباب الذاتية الأساسية التي أدت إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية والخضر. واعتبر النوري أن منظومة دعم الخبز التي أُحدثت بمقتضى أمر عليّ يعود إلى الفترة الاستعمارية سنة 1947 انتهت عمليا ولم تعد تستجيب لمتطلبات مرحلة يشهد فيها العالم تغيرات متسارعة تتعلق بالأمن الغذائي للدول.

وتابع: "من المنتظر أن يكون لتراجع محاصيل الحبوب في البلاد وأزمة الحبوب العالمية تأثير مضاعف في الأسابيع المقبلة على نمط حياة التونسيين لا سيما أن المظاهر الأولى للأزمة بدأت في الظهور، إذ أصبحت الطوابير أمام المخابز عادة يومية نتيجة نقص الخبز، كما تم تسجيل نقص حاد في المواد الأساسية في المتاجر الكبرى".

معونات خارجية
يعد تعويض نقص الإنتاج باللجوء للتوريد إحدى أهم التحديات للمالية العمومية نظراً إلى الاحتمالات الكبرى لارتفاع الأسعار على المستوى العالمي في الفترة القادمة إضافة إلى أزمة التزويد بعد وقف اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية وذلك في ظل شح كبير للتمويلات والتدفقات المالية الخارجية على تونس.

وخلال العام الحالي، وقعت تونس ما لا يقل عن اتفاقيتي تمويل مع البنكين الدولي والأفريقي للتنمية لشراء الحبوب، فضلا عن حصولها عن دعم أميركي تمثل في شراءات مباشرة لشحنات بـ25 ألف طن من القمح وصلت إلى موانئ تونس في إبريل/ نيسان الماضي.

وتحتاج السوق التونسية إلى ما لا يقل عن 3.4 ملايين طن من القمح والشعير سنويا، وتستورد عموما ما بين 60 و70 بالمائة من حاجياتها من الأسواق الخارجية، خصوصا من أوكرانيا وروسيا، كما تصل وارداتها من القمح اللين الموجه لصناعة الخبز إلى 90 بالمائة، وهو ما يجعل كل 4 أرغفة خبز موردة مقابل رغيف واحد مصنوع من الدقيق المحلي، حسب ببيانات رسمية. وخلال الأسبوع الماضي، ارتفعت أسعار القمح في الأسواق الدولية بما يقرب من 11 بالمائة مسجلة أكبر زيادة منذ منتصف يونيو/ حزيران الماضي، وفقاً لوكالة "بلومبيرغ".

اختناق مالي
يرى عضو هيئة الخبراء المحاسبين والناشط السياسي هشام العجبوني أن سلطات تونس التي ترفض توقيع اتفاق مالي مع صندوق النقد الدولي بحجة رفض الرئيس رفع الدعم عن الغذاء انطلقت فعلا في تطبيق سياسة إصلاح في هذا الاتجاه دون الإفصاح عنها بشكل مباشر خوفا من التداعيات الاجتماعية للقرار، وأفاد في تصريح لـ"العربي الجديد"، بأن الأرقام الرسمية الصادرة عن وزارة المالية في تقارير تنفيذ الميزانية تكشف أن سلطات البلاد لم تنفق خلال الربع الأول من العام الحالي سوى 42 مليون دينار، أي ما يعادل 14 مليون دولار، لدعم الغذاء من مجموع نفقات مرسمة في قانون الموازنة بقيمة 2.5 مليار دينار، أي زهاء 833 مليون دولار.

وأضاف أن "هذه الأرقام تؤكد أن السلطة انطلقت فعلا في تنفيذ سياسة رفع الدعم لكن عبر تقليص توفير السلع وليس عبر الزيادة في الأسعار". ويعتبر المتحدث أن أزمة تونس الاقتصادية هي نتيجة لتراكمات أخطاء كل الحكومات التي تعاقبت خلال العشرية الأخيرة والتي أعطت الأولوية للملف السياسي على حساب الإصلاح الاقتصادي ما أدى إلى تدهور كل المؤشرات وارتفاع التضخم إلى مستويات قياسية وتفاقم صعوبات عيش المواطنين.
وينفذ ديوان الحبوب الحكومية حصريا مشتريات الحبوب سواء عبر قبول المحاصيل المحلية أو التوريد من السوق الخارجية.
ويأتي ذلك وسط استمرار ضغوط صندوق النقد الدولي على سلطات البلد المنهك اقتصاديا من أجل الانطلاق في إصلاح منظومة الدعم ومن أهمها دعم الغذاء والطاقة مقابل توقيع اتفاق قرض نهائي بقيمة 1.9 مليار دولار.

وقال وزير الاقتصاد والتخطيط سمير سعيد، الأسبوع الماضي، إن "اتفاق تونس مع صندوق النقد الدولي يبقى مهما، مؤكدا أن الترقيم السيادي لبلاده سيتراجع مجددا إذا لم تتوصل السلطات إلى اتفاق أو بديل تمويلي آخر. وأكد سعيد خلال جلسة عامة عقدها البرلمان، أنه لا يمكن لتونس اللجوء إلى السوق الدولية للاقتراض، وأن الحكومة قامت بتحسين المقترحات التي ستوجهها مجددا إلى صندوق النقد.

المساهمون