بعد ثورة يناير 2011، تعثرت أحوال الاقتصاد المصري بسبب تراجُع إيرادات السياحة، وتَعَطُّل الإنتاج، وعزوف الاستثمار الأجنبي عن القدوم إلى البلاد لحين استقرار الأوضاع.
لم يكن الأمر يتطلب أكثر من توجه واضح نحو المسار الديمقراطي، وإعلان مواعيد محددة لانتخابات تشريعية ورئاسية، وهو ما شرعنا فيه بالفعل، وكان كفيلاً بإصلاح الأمور، إلا أن البعض، في الداخل والخارج، لم يكن ليسعده صلاح الأحوال في ذلك الوقت.
تكاتف الجميع، عمداً أو عن جهل، على إضعاف "الصورة الظاهرية" للاقتصاد المصري خلال تلك الفترة، قبل أن يتم الانقلاب على شرعية الرئيس المنتخب ويسيطر على الأمور من كان مدعوماً من مؤسسات الدولة العميقة داخل مصر ومن القوى الخارجية المعادية للربيع العربي، فيتم تسخير كل الإمكانات لإنجاحه.
فتحت السعودية والإمارات خزائنهما لإقراضه، ومولتا الكثير من صفقات أسلحته، وأرسلتا رجال أعمالهما لشراء الأراضي المصرية وضخ المليارات في مشروعات لا تساهم حقيقة في تنمية البلاد ولا العباد، ولا تنتج ما يتم تصديره، ولا تخلق فرصاً وظيفية مستديمة إلا نادراً، وتفيد أصحابها أكثر مما تفيد المصريين.
وتسببت هذه الخطوات في تحقيق الهدف الرئيسي منها وهو تحسين "الصورة الظاهرية" للاقتصاد، من خلال زيادة احتياطي النقد الأجنبي وتقليل عجز الموازنة، حتى لو تم ذلك بالاقتراض، وزيادة تدفقات الاستثمار الأجنبي، وإن جاء لشراء أراضٍ للاستثمار العقاري فقط.
تحسنت صورة الاقتصاد المصري بما تم من عمليات يسميها المتخصصون "تزيين النوافذ Window Dressing"، واستغلت السعودية نفوذها باعتبارها واحدة من أكبر 10 دول في حقوق التصويت داخل صندوق النقد الدولي، والإمارات باعتبارها من أنشط الدول في تقديم الهدايا القيمة لكبار المسؤولين في المنظمات الدولية، لإقناع مجلس إدارة الصندوق، الذي يعد همه الأول هو توظيف ما لديه من فوائض بمعدلات فائدة مربحة، بإقراض مصر، حتى كانت الدولتان بمثابة الضامن، بما لديهما من مليارات، لسداد المصريين قروض الصندوق.
وكما يفعل أي بنك عند إقراض الأفراد والشركات، ورغم وجود الضامن، فرض صندوق النقد العديد من الشروط لضمان وضع مصر على الطريق الصحيح لتحسين حالة اقتصادها، من وجهة نظره بالطبع، التي لم تكن تعني أكثر من فتح الاقتصاد المصري، بكل ما فيه من ثروات وأصول وفرص أمام رأس المال العالمي، يتبوأ منه كيفما يشاء، إلا أنه لا يكتب على الورق أبداً كلمة "شروط"، وإنما يضعها في إطار مجموعة من التوصيات التي يقترحها، ويختار لها مسميات لا يمكن الاعتراض عليها.
طلب صندوق النقد من مصر "مرونة أكثر في التعامل مع سعر الصرف"، فتم تعويم الجنيه المصري وفقد أكثر من 60% من قيمته في فترة وجيزة، وانخفضت فجأة رواتب المصريين وقيمة أصولهم وثرواتهم، وأصبحت الشركات المصرية رخيصة جداً للمستثمر الأجنبي، الذي لم يكن مرة أخرى، وحتى الآن، سوى السعودي والإماراتي اللذين دخلا بقوة، وسيطرا على العديد من القطاعات، مثل القطاع الصحي.
وطلب الصندوق من مصر "تحسين المالية العامة"، فتوسعت الحكومة في فرض الضرائب، وعَرَضَت أكثر من عشرين شركة مملوكة للقطاع العام للبيع، ورفعت تكاليف كل الخدمات المقدمة للمواطنين، واستحدثت العديد من طرق الجباية، مثل ما عرف برسوم التصالح في مخالفات البناء، بأثر رجعي يمتد لأكثر من عقد من الزمان، وفرضت رسوماً على خدمات الصرف الصحي، وعلى استخدام بعض الطرق.
وفي أكثر من لقاء لي مع مسؤولين من صندوق النقد، كانت هناك إشادات واضحة بقدرة المصريين على إيجاد حلول مبتكرة لمشكلة المالية العامة.
وطلب الصندوق من مصر "ترشيد الإنفاق الحكومي"، فتم التخطيط لتسريح آلاف الموظفين، وأُلغي قدرٌ لا بأس به من الدعم الحكومي على الكهرباء والغاز والوقود والمياه، قبل أن يأتي دور رغيف العيش (الخبز)، الذي حاول الكثير من الحكومات المصرية من قبل تجنب اتخاذ قرار بشأنه، حرصاً على مصالح ملايين المصريين ممن لا يتحملون رفع سعره، كونه أحد أهم مكونات الوجبات الثلاث لأغلب سكان هذا البلد.
كانت الخطوة متوقعة في ظل التوجه الحالي نحو تحويل تكلفة الحصول على كل الخدمات في مصر إلى السعر العالمي.
لكن المشكلة التي يتجاهلها القائمون على الأمر في هذا البلد أن سعر المواطن فيه، وهو من سيتحمل التكلفة العالمية لتلك الخدمات والسلع، ما زال أقل كثيراً من متوسطه في كافة بلدان العالم، سواء من حيث الراتب المدفوع له، أياً كانت وظيفته، أو من حيث الحقوق والحريات التي يتمتع بها، أو حتى من حيث ما يسمح له بالمشاركة فيه عند اتخاذ القرارات الهامة أو محاسبة المسؤولين أو انتخاب من يمثلونه.
ومما يؤسف له في هذا الموضوع، أن العديد من الخبراء والمتخصصين سارعوا لتأييد التوجه نحو رفع سعر رغيف العيش، رغم علمهم بكل التفاصيل التي سردتها، خوفاً وطمعاً.
وذراً للرماد في العيون، أعلن هؤلاء تأييدهم لإلغاء الدعم الموجه إلى سعر رغيف العيش بعد خطاب السيسي مباشرة، على أن يتم استبداله بالدعم النقدي المباشر لمن يستحقون من الفقراء، رغم علمهم بعدم وجود حصر يمكن الوثوق به في أعداد المستحقين للدعم النقدي، أو تعريف متفق عليه يحدد من هم من الأساس.
ويدرك هؤلاء المتخصصون، وهم من يشغلون مناصب الرؤساء التنفيذيين لمؤسسات مالية كبرى في مصر، أن جائحة العام الماضي كشفت سوء أوضاع العمالة غير الرسمية، وهشاشتها في مواجهة الأزمات الطارئة، حيث لم يحصل على الإعانات الحكومية في وقت توقف الاقتصاد وصدور أوامر البقاء بالمنزل إلا نحو اثنين مليون عامل من أكثر من 12 مليوناً، وحتى هؤلاء حصلوا على مبلغ 500 جنيه (حوالي 32 دولارا) في الشهر، لفترة لا تتجاوز أربعة أشهر، وأن عدد من هم تحت خط الفقر يتجاوز 35 مليون مواطن، ومع ذلك يؤيدون إلغاء دعم رغيف العيش. فهل يعرف هؤلاء لماذا يطلق المصريون على الخبز اسم "العَيْش"؟