يلتقي القادة الأوروبيون، اليوم الجمعة، في قمة براغ غير الرسمية على وقع أزمات تكاد تعصف بمنطقة اليورو، والسوق المشتركة.
وتشكل سياسة ألمانيا المنفردة في مواجهة الأزمة، بتخصيص 200 مليار يورو لدعم المستهلكين والشركات مع ارتفاع جنوني في الأسعار ومستوى التضخم، أحد منطلقات هذه الخلافات الأوروبية على كيفية مواجهة أزمة الطاقة، منذ غزو روسيا أوكرانيا، في فبراير/شباط الماضي.
برلين تواجه مشكلة حقيقية بانتشار 13 مليون مواطن فقير أو على حافة الفقر، بحسب التقارير الرسمية، وخصوصاً في مناطق شرق ألمانيا الديمقراطية السابقة. ويخشى ساسة اليسار ويسار الوسط، برئاسة المستشار أولاف شولتز، من استغلال اليمين المتشدد، بالأخص حزب "البديل لأجل ألمانيا"، وغيره من الجماعات الاحتجاجية المتهمة بعلاقات مشبوهة مع روسيا، من تأليب الشارع في الشتاء المقبل.
بعض التقديرات الأوروبية تقرأ بشكل جدي احتمالية استغلال روسيا موسم الشتاء وارتفاع تكلفة المعيشة لخلق اضطرابات اجتماعية، للتأثير على مواقف الحكومات الغربية من حرب الكرملين في أوكرانيا.
فخلف الصورة التي تجمع القادة في قمة براغ غير الرسمية، تستعر الخلافات والغضب الأوروبي حيال مشاريع ألمانية بصرف تلك المليارات داخلياً لرفع تهديد ارتفاع أسعار الطاقة وتكاليف الإنتاج، المواطنين والشركات الألمانية.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تواجه فيها برلين امتعاضاً أوروبياً بسبب دعمها الشركات، وهو ما كانت تتبناه دائماً برفضها السابق تحديد الحد الأدنى للأجور من أجل تعزيز قدراتها التنافسية، لكن الخلاف هذه المرة يتعلق بأوضاع حساسة جداً في مسار روسي مراهن على نشوء احتجاجات اجتماعية وتفسخ "التضامن الأوروبي" في مواجهة مشاريع بوتين.
العزف المنفرد يهدد وحدة القارة
في العادة يردد الأوروبيون أنّ "من يدفع المال يحدد نوع الموسيقى التي تعزف"، ولبرلين باع طويل في فرض مقطوعاتها منذ أزمة اليورو وأزمة المالية العالمية، حيث كانت خزائنها تدفع بسخاء مدروس لمصلحة منطقة اليورو من جانب، ولدعم قدرات شركاتها على المنافسة.
اليوم يبدو الالتفات أكثر نحو الداخل لتخفيف جنون أسعار الطاقة، وهو لم يرق للكثيرين في عاصمة الاتحاد الأوروبي، بروكسل.
ذلك ما عجّل ببروز الخلافات إلى العلن، وهي الورقة الرابحة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سياق المواجهة طويلة الأمد.
والمعضلة الأكثر تأثيراً، وتثير رعب يسار ويسار الوسط الألماني، أنّ القلاقل الاجتماعية بدأت تطل برأسها باحتجاجات سبقت حتى تعرّض خطا الغاز "نورد ستريم 1" ونورد ستريم 2" لتفجير وتوقف تام، حيث تظاهر المئات للضغط على السياسيين من أجل التجاوب مع مبادرة بوتين للدفع بالروبل لضمان تدفق الطاقة إلى أوروبا.
وزادت خلال الفترة الماضية مظاهر الاحتجاج على ارتفاع الفواتير، وحمل البعض لافتات تتهم شولتز ونائبه روبرت هابيك بالكذب. وذلك يعد مؤشراً على ما ستحمله الأيام القادمة للشتاء.
الأوروبيون من جهتهم، وبعضهم قريب من موسكو، كرئيس وزراء المجر فيكتور أوربان، يثيرون غضبهم بوجه برلين، بجعل الألمان أكثر قدرة على مواجهة الأوقات العصيبة من بقية مواطني القارة، مطالبين بتبن مشترك لخطط الصرف المالي يمنح شركاتهم ومواطنيهم بعضاً من الكعكة تحت سقف الاتحاد الأوروبي.
المفوض الاقتصادي الإيطالي باولو جينتيلوني، وزميله الفرنسي تييري بريتون، في مقال مشترك في صحيفة "ذي آيريش تايمز" الأيرلندية، ذهبا إلى الدعوة إلى أهمية أن تتغلب أوروبا على انقساماتها واقتراض الأموال بشكل مشترك من أجل التغلب على أزمة الطاقة.
من جهته، انتقدت فرنسا حليفة ألمانيا، من خلال وزير ماليتها برونو لو مير، تخصيص برلين كل تلك الأموال داخلياً. واعتبر أن ما يجري "يهدد بتقسيم منطقة اليورو، إذا لم يكن هناك تضامن داخلي أوروبي لدعم مشترك للشركات واحترام تكافؤ الفرص".
الموقف نفسه ينسحب على روما، حيث حذر رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي، من أن خطوة برلين تضر بتكافؤ فرص الشركات والمواطنين في القارة العجوز.
عبارات الغضب عند أوربان تجاوزت اللغة المعتادة في وصف حزمة مساعدات برلين لمواطنيها، معتبراً إياها "تقتل الدول الأعضاء الأخرى"، واصفاً إياها في مقابلة مع صحيفة "فايننشال تايمز"، الأسبوع الماضي، بأنّها "خطة آكلي البشر".
برلين رفضت على لسان وزير ماليتها كريستيان ليندنر الاتهامات الأوروبية، فقد اعتبر أنّ المواقف بُنيت على سوء فهم للخطة، مشدداً على أنها "أموال مخصصة أيضاً للعام المقبل وليس فقط لما تبقى من العام الحالي". وأبدى ليندنر قبل اجتماع براغ رغبة بلاده برؤية خطط أوروبية مشتركة لمواجهة الأزمات.
على كل حال، الغيوم السوداء الداكنة التي استقبلت القادة في براغ التشيكية تعكس إلى حد بعيد الأجواء على طاولات نقاشات اليوم الجمعة. هذا إلى جانب ارتفاع أصوات تؤنب ألمانيا، بسبب ما اعتبروه "رهن بلادهم للغاز الروسي خلال السنوات العشر الماضية"، وعلى أساس مفهوم قادته المستشارة السابقة أنغيلا ميركل اعتبرت فيه "التجارة سبيلاً للتغيير"، في العلاقة مع روسيا.
بالطبع لم يتجرأ بعد قادة الدول المنتقدون لألمانيا إلى حدّ المطالبة بتجميد أو رفع العقوبات عن روسيا، وبالأخص تلك التي جاءت منذ 24 فبراير/شباط الماضي، فمثل تلك الدعوة ستضع هؤلاء أمام رأي عام آخر غاضب من روسيا بسبب حربها في أوكرانيا.
في المجمل، فإنّ السياسة الألمانية المستندة إلى "ألمانيا أولاً" لتجنّب "شتاء الغضب"، من خلال حركات احتجاجية تدفع بالألمان الغاضبين اليائسين إلى الشوارع، بسبب فواتير التدفئة الشديدة والزيادات التي لا يمكن السيطرة عليها في أسعار الضروريات اليومية، شكّلت محركاً لتخصيص 200 مليار يورو داخلياً.
الأمر في أعين أوروبيين آخرين ليس أكثر من "أنانية" تضرب أسس السوق المشتركة في الاتحاد الأوروبي. فالاجتماعي الديمقراطي، أولاف شولتز، بالنسبة للمنتقدين الأوروبيين بات ينتهج سياسة "ترامبية" بإعلان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب شعاره "أميركا أولاً" في علاقته بالحلفاء على الضفة الأوروبية للأطلسي، وغيرهم حول العالم.