أحياناً تشعر باليأس من إصلاح الحالة المتردية التي وصلت إليها المنطقة العربية، وتفقد الأمل في انتهاء مسلسل الحروب، وتضرب كفاً على كف وتسأل نفسك في أسى: هل سيأتي اليوم الذي تتعافى فيه دول المنطقة من الدمار والخراب الذي تعاني منه منذ عدة سنوات، بداية من سورية ونهاية باليمن ومروراً بدول أخرى منها ليبيا والعراق والصومال وغيرها، وهل يمكن أن يتوقف نزف الاقتصاد والفساد داخل دول المنطقة، وقبلها انتهاء الاضطرابات الأمنية وحالة الانقسام السياسي والمجتمعي الشديدة؟
التجارب والتاريخ يقولان نعم.. يمكن حدوث ذلك. ولدينا تجارب كثيرة، لننظر إلى تجارب بعض الدول في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية التي وضعت أوزراها في العام 1945.
لنتأمل حال اليابان وكيف أنها باتت اليوم صاحبة ثالث أكبر اقتصاد في العالم، بل أصبحت القوة الاقتصادية التي يعمل لها الجميع ألف حساب، وبين حالها في أغسطس 1945 حينما ألقت الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي فتم تدميرهما بالكامل، وبعدها تم استسلام اليابان التام للأعداء والقبول باملاءاتهم وشروطهم.
ولنتأمل حال ألمانيا المنهارة اقتصادياً وعسكرياً بعد غزو الحلفاء لها، وسيطرة الاتحاد السوفييتي على برلين في شهر مايو 1945، وحالها اليوم باعتبارها القوى الاقتصادية الأولى في أوروبا والرابعة على مستوى العالم، وكيف أن معجزة الاقتصاد الألماني باتت مصدر إلهام للدول الباحثة عن نماذج اقتصادية ناجحة للاقتداء بها، وكيف أن ألمانيا باتت رقماً صعباً في معادلة الاقتصاد العالمي، وأن صادراتها وسياراتها تغزو كل أسواق العالم.
قس على ذلك تجارب دول جنوب شرق آسيا، أو ما أطلق عليها النمور الآسيوية ومنها ماليزيا، هونغ كونغ، سنغافورة، تايوان، كوريا الجنوبية، ثم الهند والصين وهي الدول التي باتت منتجاتها تغزو دول العالم، وتعدّ من أكثر دول العالم نمواً، بل باتت الصين صاحبة ثاني أقوى اقتصاد في العالم.
خذ مثلا تجربة البرازيل، فالدولة الواقعة في أميركا اللاتينية كانت قبل سنوات قليلة ترزخ تحت الديون والفقر، وقبلها كانت ترزخ تحت حكم عسكري ظالم، كما شهدت البلاد حرب أهلية دامت 10 سنوات كاملة (1975-1985)، قُتل فيها عشرات الآلاف من المواطنين، فإذا بها اليوم تصبح واحدة من أقوى 10 اقتصادات في العالم، وأسرعها نمواً في العالم، ويصنف الاقتصاد البرازيلي حالياً بأنه يقع في المركز السابع عالمياً.
بل وفي عام 2013 تفوق الاقتصاد البرازيلي على الاقتصاد البريطاني، وبعد أن كان صندوق النقد الدولي يرفض إقراض البرازيل نهاية عام 2002 أصبح مدينا لها بـ 14 مليار دولار اقترضها أثناء الأزمة المالية العالمية في العام 2008.
أما أحدث تجربة تعطيك الأمل في إمكانية تجاوز ما حولنا من حروب وخراب هي تجربة رواندا، تلك الدولة الأفريقية التي نجحت في غضون سنوات معدودة من الانتقال من مرحلتين.
المرحلة الأولى: حرب عرقية شرسة لم يعرف مثلها التاريخ الحديث، حرب إبادة جماعية أكلت الأخضر واليابس وأتت على كل شيء، وراح ضحيتها مليون شخص منهم 800 ألف قتلوا خلال 100 يوم فقط عام 1994 في مواجهات بين قبيلتي التوتسي والهوتو، حرب أغرقت البلاد ولسنوات في وحل حرب أهلية دامية، وأنهكت اقتصادها وقضت على موارد البلاد، وتسببت في ازدحام السجون بأكثر من 120 ألفا من المجرمين المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة.
ومع استمرار الحرب لسنوات اجتاح اليأس قلوب الروانديين، وهرب المستثمرون المحليون قبل الأجانب إلى الخارج، وخسرت رواندا ثروتها الطبيعية وقبلها البشرية بسبب فرار ملايين الشباب للبلدان المجاورة، أو الانخراط في الحرب الأهلية المستعرة.
أما المرحلة الثانية والتي تعيشها البلاد حاليا فهي مرحلة التحوّل السريع من حالة الخراب والدمار إلى أن تكون رواندا من أكثر الدول الأفريقية استقراراً وجذباً للسياحة والاستثمارات الأجنبية المباشرة والأسرع نمواً في القارّة السمراء، وحديث تجربتها إعلانها يوم الثلاثاء الماضي عن إطلاق أول قمر صناعي في تاريخها لتوفير الإنترنت مجاناً لمواطنيها وربط مدارسها ومناطقها الحضارية بالإنترنت المجاني.
رواندا استطاعت في غضون سنوات قليلة الانتقال من حالة حرب شرسة إلى صناعة واحدة من أقوى الاقتصاديات في أفريقيا، بل والأسرع في معدلات النمو الاقتصادي حيث بلغ المعدل نسبة 10.6% في الربع الأول من عام 2018، مقابل 10.5% في الربع الأخير من 2017، وهو معدل يفوق المعدلات المحققة في معظم دول القارة.
اقتصاد رواندا يواصل نجاحه، تاركا خلفه تجربة مريرة مرت بها البلاد في فترة التسعينيات من القرن الماضي، فهل يأتي اليوم الذي تكرر فيه الدول العربية التي تشهد حروبا وقلاقل سياسية ومجتمعية تجربة الدولة الأفريقية الصاعدة؟