حرب الموانئ في إسرائيل

21 أكتوبر 2024
جندي إسرائيلي على متن زورق في قاعدة بحرية بحيفا، نوفمبر 2023 (فرانس برس)
+ الخط -

تلقى الاقتصاد الإسرائيلي ضربة قاسية واختناقات في سلاسل الإمداد، بسبب وضع الموانئ في حيفا وإيلات وأسدود وعسقلان تحت القصف بصواريخ المقاومة الفلسطينية وجماعة الحوثي في اليمن وحزب الله في الشمال. ومنذ استهدفت جماعة الحوثي السفن المتجهة من باب المندب إلى موانئ إسرائيل في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2023، تواجه جميع السفن التي تبحر إلى إسرائيل من كل وجهة ارتفاعاً في تكلفة التأمين ضد مخاطر الحرب بمقدار عشرة أضعاف.

ستزيد معاناة الاقتصاد الإسرائيلي بعد العملية النوعية التي نفذها حزب الله في منطقة بنيامينا جنوبي حيفا في 13 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، وإطلاق غرفة عمليات المقاومة الإسلامية بياناً تحذر فيه بأن تمادي الاحتلال الإسرائيلي في الاعتداء على بقاع لبنان سيجعل من حيفا وغيرها لصواريخ المقاومة ومسيراتها، بمثابة كريات شمونة والمطلة وغيرها من المستوطنات الحدودية مع لبنان.

استهداف ميناء حيفا

استهداف ميناء حيفا بالصواريخ، أحدث صدمة في إسرائيل، فهو الميناء الرئيسي والأهم والأكبر والأكثر كفاءة في إسرائيل، ويستوفي أعلى المعايير العالمية. وهو شريان اقتصادي لإسرائيل، يمر عبره نحو 30 مليون طن من البضائع سنوياً، ومصدر للدخل لعشرات الآلاف من العمال في مختلف الدوائر العاملة في الميناء. ويعتبر محوراً تجارياً إقليمياً مع موانئ مصر واليونان وتركيا. ويشتمل على عدد كبير من المحطات التي تنقل جميع أنواع الشحنات، ويستقبل سفن الركاب الكبيرة.

مدينة حيفا هي معقل للشركات المحلية والعالمية المتخصصة في الصناعات التكنولوجية الفائقة، والنفطية والمعدنية والغذائية والكيميائية والعسكرية، وفيها نحو 350 مصنعاً يعمل فيها حوالي 20 ألف عامل. وبعد استهداف حزب الله للمدينة في نهاية سنة 2023، توقفت 15% من المصانع والشركات لأنها لا تملك ملاجئ آمنة من الصواريخ والمسيرات، ويعمل 40% منها بشكل جزئي، وفق تقدير اتحاد الصناعيين في لواء حيفا والشمال. وهي خسائر تضاعفت بلا شك بعد استهداف حزب الله قاعدة بنيامينا في جنوب المدينة. يقول مراسلون إن المدينة شهدت نزوح الآلاف من السكان وأغلقت المدارس بعد هذه الضربة وتحولت أحياء منها إلى أشباح.

في الشهور الأولى للحرب، كانت إسرائيل تعتبر ميناء حيفا في مأمن من الصواريخ، فهو يقع في خليج طبيعي ومحمي. ذكرت صحيفة ذي ماركر الاقتصادية أن كلفة نقل البضائع عبر الجو في إسرائيل زادت بنسبة 30% بفعل توقف معظم شركات النقل الجوي عن التوجه إلى إسرائيل بفعل الأوضاع الأمنية. وبحسب الصحيفة، فإن شركات الاستيراد باتت تستعين بخدمات شركات طيران إسرائيلية لنقل البضائع في ظل التهديد بالقصف لميناء حيفا.

ومما يشير إلى تأثير الأوضاع الأمنية على حركة السفن باتجاه إسرائيل، كشفت الصحيفة أن السفن الأجنبية المتخصصة في نقل الركاب توقفت بالفعل عن الوصول إلى موانئ دولة الاحتلال، وتوقعت ألا تستأنف هذه السفن رحلاتها في عام 2025. وبسبب قصف حزب الله للميناء، أوقفت شركة الركاب الإسرائيلية رحلاتها من وإلى ميناء حيفا وانتقلت إلى العمل من ميناء أسدود.

بدائل حيفا

في بداية الحرب، استهدفت جماعة الحوثي السفن المتجهة إلى موانئ إسرائيل عبر البحر الأحمر، ما أدى إلى شلل حركة الشحن والنشاط التجاري تماماً في ميناء إيلات الإسرائيلي وإعلان إفلاسه. وإيلات ميناء استراتيجي، يمر خلاله 5% من تجارة إسرائيل السنوية والتي تقدر بـ73 مليار دولار صادرات، و103 مليارات دولار واردات. ويستقبل سفن الشحن العملاقة، والتي تصل حمولتها إلى 20 ألف حاوية. وهو نافذة إسرائيل الوحيدة على البحر الأحمر لدول شرق آسيا التي ترتبط معها بعلاقات تجارية ضخمة، الصين والهند واليابان، وتستورد منها السيارات والمواد الخام والنفط، وتصدر إليها أسمدة البوتاس، ولا تحتاج السفن المترددة عليه إلى المرور عبر قناة السويس. وهو كذلك ميناء سياحي، يستقبل مليون سائح سنوياً. كل هذا الرخاء توقف تماماً بسبب قصف جماعة الحوثي الميناء بالصواريخ.

ميناء أسدود، ثاني أكبر موانئ إسرائيل، والذي يبعد عن قطاع غزة بأقل من 30 كيلومتراً، كان أحد أهداف المقاومة الفلسطينية بالقصف الصاروخي في بداية الحرب، وتكرر القصف بعد ذلك، ما أدى إلى تقلص حركة مرور السفن نحوه بنسبة 50% منذ السابع من أكتوبر الماضي، بعد أن كان يستقبل 21 مليون طن من البضائع في 2022 محملة في مليون شاحنة، وذلك بسبب اضطرار السفن المتجهة إليه من آسيا إلى أن تسلك طريق رأس الرجاء الصالح، والذي يؤخر وصول السفن شهراً كاملاً ويزيد تكلفة الشحن 40% في المتوسط.

يرجح اتحاد الصناعيين أن يؤدي الهجوم الصاروخي المتكرر على ميناء حيفا إلى سيناريو يتم فيه تعليق نشاط الميناء، ونقل النشاط التجاري البحري منه إلى ميناءي عسقلان وأسدود في الجنوب. وقد وقع سيناريو مماثل في حرب 2006، عندما سقط صاروخ لحزب الله في مرآب السكة الحديد المجاور لميناء حيفا، وسبّب مقتل ثمانية من العمال، وأدى ذلك إلى إغلاق الميناء ونقل السفن إلى ميناء أسدود.

ولكن أسدود وعسقلان غير مجهزين للتعامل مع حاويات الشحن الكثيرة والكبيرة الحجم، وسيؤدي نقل السفن إليهما إلى تأخير التفريغ وتلف المواد الغذائية والخضروات الطازجة والفاكهة، وقد زادت كميات الاستيراد منها بعد توقف الإنتاج الزراعي والصناعي كلياً من مستوطنات الشمال التي تقل 33% من الأرضي الزراعية في إسرائيل، وغلاف غزة التي تحتوي على 20% من الأراضي الزراعية وتنتج 75% من الخضروات و20% من الفاكهة.

ويرجح أن تتوقف السفن عن الوصول إلى أسدود في حالة قصفه من حزب الله أو قوى المقاومة في غزة، وفي كلتا الحالتين سترتفع أسعار السلع الغذائية والصناعية بوتيرة أسرع. وكذلك تزيد صعوبة وصول الأسلحة والذخائر من الخارج إلى وحدات الجيش، وهو ما يغري حزب الله بالتركيز على استهداف ميناء حيفا مستقبلاً نظراً إلى أهميته العسكرية والاستراتيجية.

أما ميناء عسقلان الذي يبعد عشرة كيلومترات فقط من حدود قطاع غزة، تراجع العمل فيه منذ اليوم الأول للحرب، بعد قصفه بالصواريخ من غزة. وهو ميناء مخصص للنفط والغاز فقط. وفي مايو/ أيار الماضي، استهدفته المقاومة في العراق بالقصف، فتوقف العمل فيه تماماً منذ ذلك التوقيت، ورغم نفي الحكومة الإسرائيلية، لكن وكالة رويترز أكدت عن مصادر ملاحية إغلاق الميناء تماماً في أكتوبر الحالي.

خسائر باهظة

استهداف الموانئ الإسرائيلية أجبر شركات التأمين على زيادة التعريفة التأمينية ضد مخاطر الحرب على السفن المتجهة إلى موانئ إسرائيل. ووسعت اللجنة المشتركة لمخاطر الحرب، وهو اتحاد يضم أكبر شركات التأمين البحري وإعادة التأمين في لندن، "المنطقة ذات المخاطر العالية" لتشمل جميع المناطق البحرية الإسرائيلية، ما دفع شركات التأمين إلى فرض أقساط تأمين إضافية على شركات الشحن. فقفزت تكلفة التأمين ضد مخاطر الحرب في البحر الأحمر عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب، فزادت من 0.07% قبل أكتوبر 2023، إلى 0.7% بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023.

بخلاف التأمين ضد مخاطر الحرب، زادت تكلفة شحن حاوية بحجم قياسي، 20 قدماً، من الهند إلى إسرائيل وأوروبا إلى 2500 دولار في إبريل/ نيسان الماضي، أي خمسة أضعاف ما كانت عليه قبل أكتوبر 2023 وهو 500 دولار. وارتفعت أسعار الشحن إلى الولايات المتحدة التي تعتبرها جماعة الحوثي دولة عدواً، كثيراً إلى 4500 دولار للحاوية، ارتفاعاً من 1500 دولار في فترة ما قبل الأزمة. وتتصاعد الأسعار التي تُجدَّد أسبوعياً بتصاعد الأزمة، بحسب تصريحات مجلس تعزيز الصادرات الهندسية في الهند. أما ما يخص أصحاب السفن الإسرائيليين، والذين كانوا الهدف الرئيسي لهجمات الحوثي، فإن الزيادة وصلت إلى عشرة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب.

وهي زيادة كبيرة تضيف عشرات الآلاف من الدولارات إلى كل رحلة، ومن ثم تلقي بتداعيات جمة على الاقتصاد الإسرائيلي وعلى صناعة الشحن. ما دفع شركات الشحن العالمية والمحلية في إسرائيل إلى مطالبة الحكومة بتحمل تكلفة التأمين لضمان استمرار وصول السفن والواردات الحيوية إلى الكيان. ونظراً إلى أن الاقتصاد الإسرائيلي يعتمد بنسبة 98% على النقل البحري، تعهدت الحكومة بتقديم تعويضات للشركات المتضررة بسبب الحرب.

ارتفاع أسعار الغذاء

في أغسطس/آب الماضي، ارتفعت أسعار الطماطم مثلاً في إسرائيل أربعة أضعاف تقريباً إلى 30 شيكلاً (8 دولارات) للكيلوغرام. وادعت صحيفة جيروزاليم بوست أن سبب الأزمة هو ارتفاع درجات الحرارة في إسرائيل والتي سجلت أعلى مستوياتها في شهر يوليو/تموز الماضي منذ 75 عاماً. ولكنها قالت إن هذا يثير أسئلة ملحة حول مدى توفر المنتجات الطازجة وتكلفتها داخل الدولة؟ واعترفت مواقع إعلامية عبرية بأن وقف واردات الخضروات من تركيا، التي توقفت بعد أن حظر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الصادرات إلى إسرائيل، هو السبب الرئيس لارتفاع أسعار الخضروات.

موقف
التحديثات الحية

بسبب مخاطر هجمات الحوثي على السفن في البحر الأحمر وإيلات، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا مبادرةً أمنية متعددة الجنسيات أُطلق عليها "حارس الازدهار" في 18 ديسمبر 2023، بهدف تأمين حرية الملاحة في البحر الأحمر، ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً في وقف هجمات الحوثي، وأعلنت إدارة ميناء إيلات إفلاسه وتوقفه عن العمل في يوليو الماضي.

تنبأ الرئيس التنفيذي للميناء جدعون غولبر، بوقوع إسرائيل تحت الحصار الفعلي في حال اندلعت حرب شاملة على الجبهة الشمالية ووصلت صواريخ حزب الله إلى ميناءي حيفا وأسدود. ويبدو أن نبوءة غولبر بدأت تتحقق بعد أن ركزت المقاومة في اليمن والعراق وجنوب لبنان على قصف الميناءين الرئيسيين، بالإضافة إلى ميناء عسقلان الذي وقع فريسة سهلة لصواريخ المقاومة في غزة.

ومهما حاولت إسرائيل إيجاد بدائل للموانئ البحرية، باستئجار ميناء في قبرص، أو نقل البضائع عبر طريق بري يمر من الإمارات إلى الأردن عبر السعودية وصولاً إلى إسرائيل، ولكن بسبب التكلفة العالية والوقت المهدر والكفاءة المتدنية للنقل البري في نقل البضائع، ستظل الموانئ البحرية هي شريان الاقتصاد الإسرائيلي، وأي تهديد له هو حصار مباشر وتهديد للاستقرار يمكن أن يسهم في وقف العدوان على غزة.

المساهمون