وسط التباين الكبير في الأهداف الاستراتيجية بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وواشنطن، ربما تتطور الخلافات بين أنقرة والغرب إلى أكثر من النزاع المالي والنقدي حول الليرة، وسياسات سعر الصرف التي ينظر إليها البعض على أنها حلقة واحدة من حلقات الخلاف في السياسات الاقتصادية والدفاعية والنفوذ الجيوسياسي بين أردوغان والغرب.
من بين المؤشرات الكبرى على حجم التوتر بين واشنطن وأنقرة، تجاهل الرئيس الأميركي جو بايدن دعوة أردوغان لقمة "الحكومات الديمقراطية" التي دعا إليها 110 زعماء من قادة العالم، ومن المقرر أن تعقد في ديسمبر/ كانون الأول الجاري، حسب بيان وزارة الخارجية الأميركية الصادر على موقعها في 23 نوفمبر/ تشرين الثاني. وعدم دعوة أردوغان، على الرغم من أن تركيا دولة ديمقراطية وتجري فيها انتخابات برلمانية ورئاسية، يرسل أكثر من إشارة حول عمق الخلافات بين الرئيسين الأميركي بايدن والتركي أردوغان.
حرب غربية على "استقلالية الاقتصاد التركي"
ورغم الحديث عن المؤامرة في الأوساط التركية ضد أردوغان، فإن ما يحدث ببساطة قد يكون حربا بين "النظام المالي الغربي" القائم على الفائدة المصرفية في تسعير النقود، وبين توجهات أردوغان نحو "استقلالية الاقتصاد التركي وخفض سعر الفائدة".
ويرى محللون غربيون أن أردوغان يحدث تطوراً نوعياً في استراتيجية تركيا الاقتصادية والمالية والدفاعية والنقدية قد تهدد المصالح الغربية. ويستهدف أردوغان بناء نظام اقتصادي يخدم أهداف التوظيف والاستثمار والإنتاج "غير ربوي" في تركيا، وبالتالي مغاير لـ"النظام المالي العالمي" الذي تقوده الولايات المتحدة عبر المؤسسات المالية الدولية المشتركة والمصارف التجارية.
وتعمل المؤسسات المالية الغربية داخل وخارج تركيا على إفشال هذا النهج، وتتخوف من احتمال تمدده في المنطقة العربية، وربما خروجها من دائرة النفوذ الغربي، خاصة أن تركيا بدأت في الانفتاح نحو الإمارات والسعودية ومصر.
وحتى الآن يظهر الصراع من الجانب الغربي في آلية المضاربة على الليرة التي تعاني من أسوأ انهيار في تاريخها القريب، وتعد العملات دائماً من الأهداف السهلة في الحروب الاقتصادية، خاصة عندما تكون الدولة تعاني من ضعف مالي، ولديها ديون دولارية قصيرة الأجل كبيرة وبحاجة لتسديدها ومعدل تضخم عال، وتواجه نقصا في مداخيل العملة الصعبة، مثل ما هو الحال في تركيا.
وبينما يسعى الرئيس التركي للتخلص من "دولرة الاقتصاد" عبر خفض الفائدة المصرفية، يرى محللون بصحيفة "وول ستريت جورنال" أن البنوك الاستثمارية الغربية ترد على هذه الاستقلالية، عبر تضييق الخناق على الشركات التركية بتفادي شراء الأسهم والسندات المقومة بالعملة التركية، كما رفعت شركات التصنيف الائتماني من كلف الاستدانة بالليرة. وهذه سياسة فعالة في تجفيف منابع التمويل بالدولار واليورو.
على ماذا يراهن أردوغان؟
في المقابل، يراهن أردوغان على مداخيل السياحة والصادرات التركية والاستثمارات المباشرة لدعم الدخل من العملات الصعبة، في وقت يملك فيه البنك المركزي احتياطات تبلغ نحو 127 مليار دولار، وفقاً لبيانات رسمية.
لكن من جانبها تراهن المصارف الغربية على استهلاك الرصيد الأجنبي من العملات الأجنبية، وعجز تركيا عن تسديد أقساط ديونها بالعملات الصعبة، أو حدوث سلسلة من الإفلاسات لبعض الشركات في البلاد.
وينفي مقربون من السلطات النقدية التركية مثل هذه الاحتمالات الغربية، خاصة مع تدفق النقد الأجنبي على البلاد، فقيمة الصادرات وحدها تتجاوز 200 مليار دولار هذا العام، وصادرات تركيا بلغت أكثر من 21.5 مليار دولار في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي وحده، وفق وزير التجارة التركي محمد موش.
وينتقد خبراء سياسة أردوغان النقدية، ويرون أن الدفاع عن الليرة التركية عبر ضخ دولارات البنك المركزي لن تكون مفيدة، وربما سترفع فقط من مضاربات المصارف الغربية وأذرعها في داخل تركيا.
في هذا الشأن، يقول البروفسور بجامعة كوك بإسطنبول سيلفا ديمرلاب: "لا أدري كيف سيكون تدخل البنك المركزي مفيداً في السوق وسط سياسة خفض الفائدة"، فيما يرى مدير صندوق "آي جي أم" الأميركي بول مكنمارا، في تصريحات لصحيفة "وول ستريت جورنال"، أنه "سبق أن تدخلت دول نامية واقتصادات ناشئة في السوق للدفاع عن عملتها ولم تنجح، ولا أدري كيف ستنجح تركيا".
يذكر أن حزب "العدالة والتنمية" سبق أن نجح في تخليص تركيا من ديونها لصندوق النقد الدولي في العام 2015، ويعتقد أردوغان أنه سينجح في سياسة تحرير تركيا من هيمنة البنوك الغربية على الاقتصاد عبر خفض الفائدة المستمر وتسديد ديون المصارف الأجنبية على تركيا.
واستفادت تركيا من الفائدة المرتفعة أو "دولرة الاقتصاد" خلال العقد الماضي، حيث وفرت المصارف الغربية للشركات والأعمال التجارية التمويل الدولاري، وبالتالي مكنتها من التوسع الإنتاجي، إلا أن أردوغان يرى أن سياسة "دولرة الاقتصاد التركي" باتت في الآونة الأخيرة مكلفة للاقتصاد وأفراد الشعب التركي، وبالتالي يرغب في القضاء عليها ضمن ما أطلق عليه "الاستقلالية الاقتصادية".
أبعد من الليرة التركية
ولكن الخلاف بين أردوغان والغرب ربما يتجاوز الليرة إلى ملفات استراتيجية عديدة. في هذا الشأن، يرى الخبير البريطاني والزميل بمعهد "العلاقات الخارجية" الأميركي للدراسات ستيفن أيه كوكس أن سياسات أردوغان تتناقض مع واشنطن على صعيد الحريات العامة مثل حرية الصحافة وحقوق المنظمات المدنية والأقليات العرقية، كما تتناقض كذلك مع مبادئ عضوية حلف شمال الأطلسي.
وحتى وقت قريب كان التعامل بين واشنطن وأنقرة يتم عبر سياسة "تخادم المصالح" التي تفيد القوى الغربية في تنفيذ استراتيجيات "الهيمنة العالمية"، إذ إن تركيا بلد ضخم وذات موقع جغرافي استراتيجي لواشنطن، إذ تقع في موقع وسيط بين أوروبا وآسيا والمنطقة العربية الغنية بموارد النفط والغاز الطبيعي، وإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود ومضيق البوسفور، المدخل الرئيسي للأسطول الروسي لمنطقة الشرق الأوسط.
وبالتالي فإن هذا الموقع جعلها مهمة في سنوات "الحرب الباردة" مع الاتحاد السوفييتي. كما تبدو واشنطن غير راضية عن تدخل أنقرة في شمال سورية، وعن صفقة شراء نظم الصواريخ "أس ـ 400" الروسية والتقارب بين تركيا وموسكو في بعض الملفات.
قوة مزعجة للغرب
في هذا الشأن، يرى الخبير في معهد "كارنيغي يورب" للدراسات الاستراتيجية مارك بيريني أن "تركيا تحولت كثيراً من موقعها كركيزة أساسية يعتمد عليها حلف شمال الأطلسي خلال الحرب الباردة إلى قوة مزعجة لاستراتيجيات الدول الغربية خلال السنوات الأخيرة".
ويقول الزميل بالمعهد، بيريني، في تحليله، إن الغرب يشعر بالانزعاج من التدخل العسكري التركي في النزاعات، وتزايد نفوذ أنقرة الخارجي وتزكية الأهداف الوطنية، وبالتالي يرى بيريني المتخصص في شؤون أوروبا والشرق الأوسط، أن تركيا ستدفع ثمن هذا الانزعاج سلباً في علاقاتها مع الحلفاء الغربيين وحلف شمال الأطلسي الدفاعي "ناتو" في المستقبل، كما يرى أن أنقرة ستتعرض لضغوط اقتصادية ومالية.
لكن الأتراك يستبعدون هذه الاحتمالات، خاصة مع قوة اقتصادهم وتحقيقه معدلات نمو قوية تبلغ نحو 9% هذا العام، وربما تزيد عن ذلك.