مؤكد أن الغالبيّة الساحقة من اقتصادات العالم ستتأثّر بأشكال مختلفة بالنزاع المسلّح الدائر في أوكرانيا، سواء كنتيجة للارتفاعات السريعة في أسعار النفط الخام والقمح، أو من خلال أثر العقوبات المستجدة على التجارة الدوليّة.
لكن بالنسبة إلى لبنان بالتحديد، سيكون لهذه التطوّرات آثار غير مطمئنة أبدًا، بالنظر إلى طبيعة الأزمات النقديّة والماليّة التي يشهدها هذا البلد، ما يجعله أكثر انكشافًا على المخاطر الاقتصاديّة الخارجيّة، وأسرع تأثّرًا بها، وأقل قدرة على التعامل معها.
في خلاصة الأمر، ستعمّق هذه التطوّرات من أزمات عديدة تشهدها الساحة اللبنانيّة، وخصوصًا من جهة الضغط على ميزان المدفوعات وحاجة البلاد إلى العملة الصعبة في هذه المرحلة الحسّاسة، وقدرة المصرف المركزي على الحفاظ على توازن العملة المحليّة.
كما ستؤثّر الأحداث الراهنة في الوقت نفسه على الميزانيّة العامّة للدولة اللبنانيّة، لناحية قدرتها على الاستمرار بتمويل شراء المحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان، في الوقت التي تعاني فيه الدولة أساسًا من أزمة في سداد مستحقات عقودها المقوّمة بالعملة الصعبة.
وأخيرًا، من البديهي أن يؤثّر ارتفاع أسعار البنزين والمازوت على معيشة المقيمين، في ظل تهاوي قدرتهم الشرائيّة الناتج عن أزمة سعر الصرف ورفع الدعم عن المواد الأساسيّة، وخصوصًا المحروقات.
خلال العام الماضي، احتاج لبنان إلى ما يقارب 3.35 مليارات دولار من العملة الصعبة لتغطية فاتورة استيراد المحروقات من الخارج، في الوقت الذي بلغ فيه سعر برميل نفط خام برنت حدود الـ70.68 دولارا كمتوسّط سنوي.
ولفهم العبء الكبير لفاتورة استيراد المحروقات سنويًا، تكفي الإشارة إلى أن قيمة المحروقات المستوردة خلال عام 2021 توازي نحو 28% من قيمة احتياطات المصرف المركزي المتبقية بالعملة الصعبة، والتي لا تتجاوز اليوم حدود الـ11.9 مليار دولار. على أي حال، وبعد أحداث أوكرانيا اليوم، تجاوز سعر برميل نفط خام برنت حدود الـ118 دولاراً، لغاية صباح يوم السبت، وهو ما يزيد بنحو 67% عن متوسّط سعر البرميل خلال العام الماضي.
بمعنى آخر، وكنتيجة لهذا الارتفاع القياسي في سعر النفط الخام، من المتوقّع أن تزيد فاتورة استيراد المحروقات بهذه النسبة، وهو ما يعني زيادة الطلب على العملة الصعبة لاستيراد المحروقات، وزيادة الضغط على سعر صرف العملة المحليّة.
مع الإشارة إلى أن المصرف المركزي ما زال يحيل مستوردي البنزين لمنصّة التداول بالعملات الأجنبيّة لتأمين حاجتهم للدولار، فيما يقوم بالتدخّل من احتياطات العملة الصعبة المتوفّرة لديه لتقليص الضغط على سعر صرف الليرة في المنصّة. ولذلك، من المتوقّع يؤثّر ارتفاع أسعار النفط أيضًا على وتيرة استنزاف احتياطات المصرف المركزي.
ارتفاع كلفة استيراد البنزين والمازوت، ستعني زيادة الضغوط المعيشيّة على جميع المقيمين في لبنان، خصوصًا بعد أن تم رفع الدعم بشكل تام عن هذه المواد، وباتت تسعيرتها بالعملة المحليّة، المنخفضة القيمة، مربوطة بشكل مباشر بكلفتها بالعملة الصعبة.
بمعنى آخر، ونتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانيّة بشكل كبير، بات أي ارتفاع في أسعار المحروقات بالعملة الصعبة يترك آثارا أقسى على تسعيرة المحروقات بالعملة المحليّة في السوق، بينما لم تشهد أجور المقيمين المقوّمة بالعملة المحليّة أي تعديل يُذكر.
أمّا الأثر الأكثر إيلامًا، فسيكون على فاتورة مولّدات الكهرباء الخاصّة. فكما هو معلوم، تمتد ساعات تقنين مؤسسة كهرباء لبنان (المؤسسة الرسميّة لتوليد الكهرباء) لأكثر من 20 ساعة في اليوم، وهو ما يفترض لجوء الأسر المقيمة في لبنان لاشتراكات مع أصحاب المولّدات الخاصّة، الذين يقومون بتعديل فواتيرهم بحسب كلفة شراء المازوت.
وبما أنّ كلفة شراء المازوت باتت مقوّمة بالدولار النقدي، بعد رفع الدعم عن هذه المادّة، فمن المرتقب أن ترتفع أسعار هذه الاشتراكات بالتوازي مع ارتفاع أسعار المحروقات.
ومرّة جديدة، ونتيجة تدنّي قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار، سيكون لهذه التطوّرات آثار مضاعفة على مستوى قدرة المقيمين الشرائيّة.
ارتفاع أسعار المحروقات، سيكون أيضًا على اتصال مباشر مع مفاقمة جميع الضغوط التي تتعرّض لها اليوم الميزانيّة العامّة للدولة اللبنانيّة. فكما هو معروف، يستنزف تمويل الدولة لعمليات شراء الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان نحو نصف العجز في الميزانيّة العامّة، وهو ما كبّد الدولة نحو 686 مليون دولار كمعدّل سنوي خلال العام الماضي.
وهكذا، من المرتقب أن ترتفع كلفة تأمين الفيول لمؤسسة كهرباء لبنان بالتوازي مع ارتفاع كلفة استيراد المحروقات، ما سيعني ارتفاع معدلات العجز في الميزانيّة العامّة.
أمّا المسألة الحسّاسة هنا، فهي ضرورة تأمين هذه المبالغ بالعملة الصعبة، بخلاف سائر أنواع النفقات التي يمكن سدادها بالعملة المحليّة، ما سيعني ضرورة تحميل المصرف المركزي عبئ تأمين الدولارات وبيعها للدولة اللبنانيّة.
بالنسبة إلى القمح، ما زال المصرف المركزي حتّى اللحظة يؤمّن الدعم لهذه المادة من احتياطات العملة الصعبة الموجودة لديه، ما فرض عليه تأمين الدولار المطلوب للمستوردين بسعر الصرف الرسمي القديم المنخفض.
ولهذا السبب بالتحديد، لن تعني الزيادات الجنونيّة في أسعار القمح العالميّة إلّا زيادة الاستنزاف في احتياطات العملة الصعبة المتبقية في المصرف المركزي، والتي تمثّل حاليًّا آخر ما تبقى من أموال المودعين التي وظّفتها المصارف في المصرف المركزي.
بمعنى آخر، ونتيجة هذا التطوّر، سيزيد الفارق ما بين التزامات المصرف المركزي للمصارف بالعملات الأجنبيّة، وما تبقى من هذه السيولة لديه، وهو ما يُعرف حاليًّا بكتلة الخسائر التي يجب التخلّص منها.
الإشكاليّة الأساسيّة، تكمن حاليًّا في محدودية احتياطات لبنان الاستراتيجيّة من القمح، والتي لا تكفي اليوم لتغطي حاجة البلاد لهذه المادّة لأكثر من شهر ونصف من الزمن، بعد أن تدمّرت أهراء (صوامع) القمح بانفجار مرفأ بيروت.
ولهذا السبب بالتحديد، وبخلاف الأردن مثلاً، لا تملك الدولة اللبنانيّة أي مرونة في التعاطي مع المسألة، ما يفرض تكبّد الكلفة الباهظة لتأمين القمح للمقيمين على المدى القصير.
مع الإشارة إلى نحو 60% من القمح الذي اعتاد لبنان استيراده أتى خلال الأعوام الماضية من أوكرانيا، وفقًا لوزير الاقتصاد اللبناني أمين سلام، وهو ما سيفرض تحدّيا كبيرا على الدولة اللبنانيّة في حال تأثّر سلاسل إمداد هذه المادّة الحسّاسة.
في المحصّلة، ومع كل ارتفاع قياسي جديد في أسعار النفط العالميّة، سيكون لبنان على موعد مع ضغوط أقوى على سعر صرف عملته المحليّة، واحتياطات مصرفه المركزي، وعلى القدرة الشرائيّة للمقيمين.
ومع كل ارتفاع قياسي جديد في أسعار القمح، ستتقلّص قدرة المصرف المركزي على الاستمرار بدعم استيراد هذه المادّة، وهو ما سيمهّد لرفع الدعم عنها، وتحميل المقيمين أكلافاً إضافيّة لتأمين أبسط حاجاتهم الغذائيّة.
أمّا الخشية الأساسيّة، فهي من إمكانيّة استطالة النزاع على المدى المتوسّط، بغياب أي خطّة أو استراتيجيّة رسميّة للتعامل مع كل هذه التداعيات القاسية على الاقتصاد اللبناني الهش.