هل تفتح الحرب الروسية في أوكرانيا الباب أمام دول آسيا الوسطى للاستقلال عن الهيمنة الروسية التي ظلت ترزح تحتها منذ الحرب العالمية الثانية؟ السؤال بات يطرح في الدوائر الغربية بسبب موقف الحكومة الأوزبكستانية المنتقد للحرب الروسية في أوكرانيا، وعدم اعترافها بسيادة الجمهوريتين اللتين أعلنتا انفصالهما عن أوكرانيا في إقليم دونباس وتسعى موسكو لضمهما خلال الحرب الجارية حالياً. كما لم تعترف أوزبكستان بسيادة روسيا على جزيرة القرم. وكانت الحكومة الأوزبكية قد دعت موسكو في مارس/آذار الماضي لحل دبلوماسي للنزاع مع كييف.
وكدليل على قلق أوزبكستان من تطور الحرب الأوكرانية وارتدادات العقوبات الاقتصادية الغربية على مستقبلها الاقتصادي والسياسي، فإنّ حكومة الرئيس شوكت ميرضيايف بدأت في التحرك نحو واشنطن خلال الشهور الأخيرة. وحسب مصادر أوزبكية لصحيفة "بوليتيكو" فإنّ حكومة ميرضيايف تنشط في بناء علاقات سياسية واستثمارية مع الولايات المتحدة، وتتعاقد حالياً مع أكثر من 10 شركات علاقات عامة في واشنطن لبناء جسور مع الإدارة الأميركية. وبينما تشهد أوزبكستان اضطرابات سياسية منذ عطلة الأسبوع أدت إلى إصابة 243 شخصاً ومقتل أكثر من 10 أشخاص حسبما أعلن الحرس الوطني في الدولة الآسيوية يوم الإثنين، تطرح تساؤلات حول ما إذا كان لموسكو دور في هذه الاضطرابات التي تعمل على زعزعة حكم الرئيس ميرضيايف بسبب تحركاته السياسية نحو واشنطن.
ويسكن منطقة كاراكالباكستان، التي تشهد الاضطرابات وتقع في شمال غرب أوزبكستان، مجموعة الكار كالباك، وهم أقلية عرقية مميزة لا يتجاوز عدد سكانها 1.5 مليون نسمة، لها لغتها الخاصة ويصفها دستور طشقند الحالي بأنها جمهورية ذات سيادة ضمن أوزبكستان ولها حق الانفصال بإجراء استفتاء.
ومن الواضح أن موقف أوزبكستان غير المؤيد للحرب الروسية في أوكرانيا ينظر له الرئيس فلاديمير بوتين بالريبة، ويتخوف من أن يؤسس لموقف معارض لموسكو في بقية دول آسيا الوسطى، خصوصاً جمهورية كازاخستان المجاورة لروسيا. وتربط موسكو مسار حركة اقتصادات آسيا الوسطى بالشركات الروسية كما رسمت حدودها بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945) لتظل دولاً حبيسة ليست لديها إطلالة على البحر الأسود، وهو ما جعل صادراتها تمر عبر روسيا وتتحكم فيها الشركات الروسية.
وحسب تقرير لصندوق النقد الدولي في إبريل/ نيسان الماضي، فإنّ اقتصاد أوزبكستان وباقي دول آسيا الوسطى يعتمد في التسويق والاستثمار على الشركات الروسية. ويرى الصندوق أنّ مستقبل النمو في دول آسيا الوسطى يعتمد على تطور مسار الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعيات العقوبات الغربية. وبالتالي فإنّ أوزبكستان التي تعد الأكثر استقلالية في قرارها عن موسكو تسعى للخروج من ورطة ارتهان مستقبلها لموسكو.
ويرى الخبير بمعهد السياسات الأمنية والتنموية الأوروبي، إس فريدريك ستار، أنّ الغزو الروسي لأوكرانيا يبرز أهمية آسيا الوسطى لكلّ من أوروبا وواشنطن. ويقول في تحليل نشر مؤخراً إنّ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان والغزو الروسي لأوكرانيا يمثلان معضلة حقيقية أمام دول آسيا الوسطى ومخاطر على مستقبل وصول مواردها للأسواق العالمية. ولذا يرى ستار أنّ على كلّ من واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وضع استراتيجية جديدة لفتح اقتصادات هذه الدول، وبناء قنوات تصديرية لمواردها من الطاقة والمعادن لأسواق العالم.
من جانبها، تأمل الولايات المتحدة في الحصول على موطئ قدم في آسيا الوسطى بعد انسحابها من أفغانستان في الصيف الماضي، حتى تتمكن من التعامل مع التحديات والمخاطر الجيوسياسية الكبرى في العالم وعلى رأسها مواجهة التقارب بين موسكو وبكين ومواجهة إيران، حيث إن دول آسيا الوسطى تملك الموقع الاستراتيجي الوسيط بين الصين وروسيا وإيران، كما تملك الموارد المعدنية وموارد الطاقة والذهب التي يمكن من خلالها محاصرة الصين.
في هذا الصدد يرى كبير الباحثين بمؤسسة "هيرتدج فاوينديشن" الأميركية للدراسات، أنتوني بي كيم، أن الولايات المتحدة أسست منتدى الحوار السنوي مع هذه الدول، وهو منتدى "سي 5 +1" في طشقند قبل 5 سنوات. والمنتدى يرمز اختصاراً لدول آسيا الوسطى الخمس والولايات المتحدة. ويقول الخبير كيم إن واشنطن تعمل من خلال هذا المنتدى على تحرير اقتصادات آسيا الوسطى من الهيمنة الروسية وربطها تدريجياً بالأسواق العالمية.
والمنتدى عبارة عن منصة لبناء استراتيجية استثمارية واقتصادية وأمنية سياسية تستهدف تطويرا رأسماليا لموارد دول آسيا الوسطى الغنية بالنفط والغاز والذهب واليورانيوم والفحم الحجري. وتستغل الشركات الروسية وإلى حد ما الشركات الصينية هذه الموارد في تعزيز هيمنتها على الأسواق العالمية.
ويقول الباحث كيم، إنّ دول آسيا الوسطى مهمة لنجاح استراتيجية الولايات المتحدة العالمية الرامية لمواجهة التحديات الجيوسياسية، سواء كانت هذه التحديات محاصرة تمدد النفوذ الروسي الصيني أو مواجهة إيران التي تناصبها العداء.
ودول آسيا الوسطى غنية بالموارد وتعد من مفاتيح توليد الطاقة الكهربائية عبر المفاعلات الذرية، إذ إنّ كازاخستان تعد أكبر دولة منتجة لليورانيوم في العالم ولديها أكبر احتياطي من اليورانيوم يقدر بنحو 22.5 ألف طن متري، كما أنّ أوزبكستان تعد خامس دولة في احتياطات اليورانيوم البالغة نحو 3.7 آلاف طن متري. وتستغل روسيا احتياطات اليورانيوم الضخمة في هذه الدول لبناء أهميتها العالمية في تصدير الوقود النووي للعالم، ويمنحها القدرة على الهيمنة على تجارة وبناء وتشغيل المفاعلات النووية للأغراض السلمية. كما تنتج دول آسيا الوسطى نحو 4 ملايين برميل من النفط يومياً، إضافة إلى احتياطات الذهب والمعادن النادرة ومعادن تدخل في الصناعات.
ووفق تحليلات غربية، فإنّ هناك ثلاثة عوامل اقتصادية سالبة ترتبت على اقتصادات دول آسيا الوسطى من الغزو الروسي لأوكرانيا وما تلاه من عقوبات غربية. وأول هذه العوامل يكمن في اضطراب سعر صرف عملاتها المرتبطة بالاقتصاد الروسي، وتأثير ذلك على ارتفاع فاتورة الواردات، وبالتالي ارتفاع معدل التضخم وغلاء المعيشة. وهذا العامل ربما ستكون له كلفة سياسية مباشرة على الاستقرار السياسي لحكومات دول المنطقة التي شهدت بعضها احتجاجات عنيفة كادت أن تعصف بالحكومة الكازاخستانية، وتشهد حالياً حكومة أوزبكستان هي الأخرى اضطرابات متنامية.
أما العامل الثاني، فيكمن في تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي ودخل الأسر بسبب اعتماد العديد من هذه الدول على تحويلات المهاجرين العاملين في روسيا. وتعاني دول آسيا الوسطى بسبب الحرب من تراجع تحويلات المغتربين في روسيا والتجارة مع روسيا وانسحاب الشركات الروسية من أسواقها.
وثالث العوامل هو تأثير العقوبات الغربية والحرب على الاستثمارات والصادرات النفطية والمعدنية من هذه الدول التي يمر بعضها عبر روسيا إلى أسواق العالم.
على صعيد اضطراب العملات المحلية في الدول الخمس، تقول الخبيرة في معهد الشؤون الخارجية تشاتام هاوس في لندن، آنيت بوهر: "الحرب الأوكرانية لها تأثير كبير على اقتصادات آسيا الوسطى وعلى مواطنيها". ولاحظت بوهر في دراسة منشورة على موقع تشاتام هاوس، أنّ عملة كازاخستان، كبرى دول آسيا الوسطى، تينغ، تراجعت بنسبة 20% بعد فرض العقوبات الغربية على روسيا. كما أن هنالك مخاوف غربية من استغلال روسيا لنفوذها في آسيا الوسطى من أجل التهرب من العقوبات الغربية.
ويثير الغزو الروسي لأوكرانيا القلق بدول آسيا الوسطى من احتمال نجاحها في التوسع الجغرافي مستقبلاً وربما سلبها الاستغلال النسبي الذي تتمتع به حالياً. وعادة ما تقوم روسيا بتحديد من يحكم في دول آسيا الوسطى بشكل غير مباشر حيث إنها تملك القواعد العسكرية التي تستخدمها للتدخل وتغيير الأنظمة الحاكمة في أي لحظة.