ثلاثة رؤساء وزراء في لبنان، واحد انتقالي مضى على استقالته قرابة عام أو أكثر، وآخر كلف ويئس من نجاح محاولاته في تشكيل حكومة تكنوقراط، وثالث مكلفٌ يقول إن لديه غالبية من المؤيدين في مجلس النواب اللبناني، ولكنه لم يشكل هذه الحكومة حتى كتابة هذه السطور.
حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، المخضرم، يواجه اتهاماتٍ كبيرة بأنه يملك شخصياً سبعة مليارات من الدولارات على شكل ودائع باسمه في بنوك أوروبية، معرّضين سمعته للفساد، ومطالبين بإقالته.
والرجل يصمد أمام كل هذه الضغوط، ويستمر في عمله وأدائه واحدة من أصعب المهام في الوطن العربي. وكان قبل ذلك يُشار إليه بالبنان بسبب استثماره في الذهب، وبنائه مخزوناً كبيراً من الاحتياطي الرسمي بالعملات الأجنبية.
لقد خرج سلامه بتصريح يقول فيه إنه لا يمكن أن يحافظ على نسبة الدعم الكبيرة لأسعار المحروقات. ويريد أن يحقق ذلك بالحفاظ على سعرٍ منخفض لليرة اللبنانية حيال الدولار، ويقول إن لبنان ينفق سنوياً حوالي ستة مليارات دولار على دعم السلع الأساسية، نصفها يذهب للنفط ومشتقاته.
ويحذّر من أن مستوى الاحتياطي من العملات الأجنبية المتاح في لبنان قد وصل إلى الخطوط الحمراء، وأنه لا يحبذ إنفاق هذا الرصيد والملجأ الأخير على دعم المحروقات. لكن المواطنين لا يقبلون بذلك، ويخرجون إلى الشوارع هاتفين ضد رياض سلامة مطالبين بعزله.
وصارت قصته شبيهةً بقصة القديسة جان دارك، Jeanne d'Arc، مع الفرنسيين، فإذا انتصرت هتفوا لها، وإن خسر الفرنسيون معركةً في حربهم ضد الإنكليز نادوا بإسقاطها. ونرجو ألا يحرق المتظاهرون والمحتجون سلامة، كما فعل الفرنسيون بالقديسة جان دارك.
وقد قابل رياض سلامة الأسبوع الماضي الرَّئيس اللبناني، ميشال عون، في مقر الأخير، وخرج من عنده ليصرّح بأن القانون لا يجيز لحاكم مصرف لبنان أن يُنفق جزءاً من الاحتياطي النقدي لديه بدون تفويض من الحكومة أو الرئاسة اللبنانية، وذلك أن القانون لا يجيز استخدام هذه الأرصدة إلا عند الضرورة القصوى، ويحدّد هذه الضرورة مجلس الوزراء ورئيس الدولة وليس حاكم مصرف لبنان أو مجلس إدارة المصرف المركزي.
انفجار عكّار يعقد المشهد
وما كادت طلائع الحل للأزمة، ولو مؤقتاً، تلوح في الأفق خافقةً على استحياء، حتى حَصَلَ انفجار جديد في منطقة عكّار بعد مرور سنة على حادث انفجار ميناء بيروت المروّع.
ويبدو أن الانفجار قد وقع في منشأة نفطية، ما جعل الأمور أكثر تعقيداً. وخرج بعدها رئيس وزراء لبنان السابق، سعد الحريري، يطالب باستقالة رئيس الجمهورية الذي تحميه إيران وسورية.
ومن الملفت للنظر أن لبنان الذي يبدو كأنه طفل صغير يفاوض أمه لكي تعطيه مصروفاً بضرب رأسه بالحائط لا يجد من يقول له كفّ عن ذلك، بل عليك أن تحسّن من أوضاعك، وتنظف أداءك، وتوقف الممارسات التنافسية بين رؤوس الفئات المختلفة، وإلا فإننا لن نعطيك شيئاً. ولعل أوضح تصريحٍ في هذا الشأن قد ورد على لسان أحد المسؤولين البارزين في السعودية.
ويأتي تصريح المسؤول السعودي صدى مطابقاً لما قاله الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في أثناء انعقاد المؤتمر الافتراضي لنصرة لبنان، حين أعلن أن فرنسا قد خصّصت مليار دولار للبنان، ولكن بشرط ألا تذهب هذه الأموال إلا إلى الأبواب والأشخاص الذين تثق بهم فرنسا. ويكاد هذا الموقف يتطابق مع ما يقوله بعض زعماء لبنان المعارضين لنفوذ حزب الله وإيران في لبنان.
وأما ملك الأردن، عبد الله الثاني، فقد ورث حب لبنان من العلاقة التي كانت تربط والده الراحل الملك الحسين وجده الملك عبد الله الأول قبل ذلك بلبنان، وهي روابط قوية.
ولقد اغتيل رئيس وزراء لبنان، رياض الصلح، في عمّان، قبل أربعة أيام من اغتيال الملك الراحل عبد الله الأول على درجات المسجد الأقصى. وقد كانت الزعامات اللبنانية على علاقةٍ حسنةٍ ومتميزةٍ مع القيادة الأردنية، سواء السنة منها أو المارونية، أو الشيعية أو الدرزية أو غيرها.
مؤتمر قمة عربي
ولقد شارك الملك عبد الله الثاني في كل المؤتمرات التي عقدت نصرة للبنان، وبخاصة المؤتمر الذي رأسه، أخيراً، الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وبحضور رؤساء آخرين، مثل الرئيس الأميركي، جو بايدن. وقد شجع الملك عبد الله على إصلاح ذات البين في لبنان، وضرورة التعاطف مع الشعب اللبناني الشقيق.
وفي مطلع الأسبوع الماضي، أكد الملك عبد الله في تغريدة له على ضرورة تبنّي مخطط جديد إبداعي لإخراج لبنان من محنته، بعدما قابل نائبة رئيس الوزراء ووزيرة خارجية لبنان في عمّان، مقترحاً أن يكون لهذا المخطط مشروع تنفيذي وخطة طريق واضحة المعالم لخدمة جميع اللبنانيين بدون تمييز أو استثناء.
وهذا المقترح يظهر خشية الملك الأردني التي ما عادت دفينة، بل واضحة كل الوضوح، من أن لبنان يسير نحو الهاوية، وإلى طريق اللاعودة.
للبنان دَيْن كبير في أعناق العرب، وحتى في أعناق دول كثيرة، فلبنان الثقافي، والديمقراطي، والليبرالي، والإنتاجي، والسياحي، والزراعي، والغذائي، والتجاري، والمصرفي، والتعليمي، والخدمي، كان متفوقاً بأشواط، ولم يبخل بهذا التفوق على إخوانه وأشقائه في الوطن العربي.
آن لهذا الدَيْن أن يُسدّد، وأن يُعقد مؤتمر قمة عربي لحل مشكلات لبنان، ولا مانع إن اتسع الوقت للنظر في قضية تونس، والتي بدأت بفعل الجينات تَتَلَبَّنْن. والبَلَدان أصبحا جنتين محرّمتين، وعلى العرب أن يكونوا أكثر انضباطاً من جدّيهما آدم وحواء.