حالة "نقشبندية" تسيطر على اقتصاد مصر

08 مايو 2024
عامل توصيل يحمل الخبز في منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة، 27 يوليو 2023 (خالد دسوقي/فرانس برس)
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشيخ سيد محمد النقشبندي، قارئ ومنشد ديني مصري، اشتهر بابتهال "مولاي إني ببابك" الذي لحنه بليغ حمدي، ونال شعبية كبيرة في العالم العربي والإسلامي، مؤثرًا في العديد من المنشدين.
- في مصر، تأثير الحالة النقشبندية واضح في الاقتصاد والسياسة والاجتماع، حيث تغلب الشعارات الدينية على الخطط الواقعية، وتستخدم الإعلانات والبرامج التلفزيونية ألحانًا وأصواتًا لرفع معنويات المواطنين.
- الحكومة المصرية تواجه التحديات الاقتصادية بالترشيد والتضامن، وتنفذ مشاريع كبيرة بالتعاون مع دول أخرى، لكن يُنتقد اعتمادها على الدعاء والأمل بالتدخل الإلهي أكثر من العمل الجاد والخطط العملية.

الشيخ سيد محمد النقشبندي قارئ قرآن ومنشد ديني مصري اشتهر بالصوت الجميل والابتهالات الدينية المميزة، حتى أطلق عليه لقب "شيخ المبتهلين". لحن له الرائع بليغ حمدي ابتهالاً جميلاً، بعنوان "مولاي إني ببابك"، بأوامر من الرئيس الراحل محمد أنور السادات، فحفظه المصريون وكثير من العرب، وأصبح مصدر إلهام لأغلب المنشدين.

حظي الابتهال بشعبية كبيرة في العالم العربي والإسلامي، وتضمن نصاً يتوسل فيه الإنسان إلى الله بالقرب والمغفرة والرحمة، مع التعبير عن الخضوع التام والاستسلام لإرادة الله، والتوجه إليه بالدعاء لقضاء الحاجة.

ابتهال "مولاي" يعد من أجمل الأعمال الفنية في تاريخ مصر، وتحمل كلماته الكثير من المعاني التي يدركها كل مؤمن بالله، يعي أن المولى هو مالك الملك، يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. لكن هل تصلح الابتهالات النقشبندية في حل مشاكل مصر؟

لو كنت تعيش في مصر، أو زرتها مؤخراً، أو تابعت أحوالها في وسائل الإعلام، يمكنك ملاحظة تمكن الحالة النقشبندية من الاقتصاد والسياسة والاجتماع، وتقريباً كل شيء في مصر، حيث تغيب الخطط ودراسات الجدوى الحقيقية للمشروعات، وتحل محلها شعارات من عينة "مصر محمية من الله"، "وربنا مش حيسيبنا"، "البلد دي فيها حاجة لله"، وهي شعارات لا تصلح الأحوال، مع تسليمي بالتأكيد بأننا جميعاً على باب الله، وأنه لا غنى لنا عن رحمته وبركاته.

إعلانات البنوك المصرية لا تتحدث عن الخدمات المقدمة، ولا عن أنواع الأوعية الادخارية، في وقتٍ تمر فيه البلاد بأزمة مالية واقتصادية طاحنة، لم تنجح "الهبرة" الإماراتية حتى الآن في إزالة آثارها، وإنما تأخذنا في حالة من النشوة، من خلال عرض بعض اللقطات الجميلة لبلدنا، مصحوبة بكلمات محفزة لأصحاب القدرات الخاصة، ومشجعة للأطفال على تحقيق أحلامهم.

ألحان الإعلانات والبرامج التلفزيونية حزينة ومؤثرة، وعادة ما تكون مصحوبة بأصوات مطربين ذوي أصوات يملؤها الشجن، من عينة أحمد سعد وحسين الجسمي، لإحداث التأثير المطلوب، وبغض النظر عن السلعة المعلن عنها. ولا تكتمل حملة الشؤون المعنوية إلا بإعلان عن "لا شيء"، يظهر بين كل إعلانين أو ثلاثة، تسمع فيه موسيقى "حلوة بلادي السمرا"، ويشكر المعلنون فيه المصريين! ولا تختلف الإعلانات الأخرى، سواء كانت لشركات الاتصالات أو بعض أنواع الجُبن أو غيرها، حيث تتغنى جميعها بطيبة وشهامة المصري الأسمر الأصيل.

توصلت السلطات في مصر، بعد سنوات من المعاناة، إلى أن سبب التضخم الحقيقي هو جشع التجار، الذين يكنزون السلع انتظاراً لارتفاع أسعارها ليحققوا أرباحاً طائلة. وبناءً عليه، قرر ولي الأمر أن تكون خطبة الجمعة الموحدة عن "التاجر الصالح"، الذي لا يخزن السلع، ويراعي مصالح العامة في أوقات الأزمات، فيتنازل عن كل أو جزء من هامش ربحه، لأن "الناس لبعضها".

انصرف خطيب الجمعة عن التحدث في العقيدة، أو عن السنة النبوية الشريفة، أو تذكير الناس بالتاريخ الإسلامي والجهاد، في واحدة من أحلك لحظات الأمة، وتفرغ للحديث عن التجارة والاقتصاد، فلا هو نفع الجيل الجديد، الذي يحصل على جل معلوماته الأساسية عن الدين من خطبة الجمعة، ولا هو بالتأكيد قال ما يصلح الاقتصاد أو ينشط التجارة.

يستغل الخطيب الفرصة فيتطرق إلى الحديث عن تقسيم الدخل بين الادخار والاستهلاك، وشراء البضائع ببطاقات الائتمان، ولا يفوته بالتأكيد أن يصب لعناته على النظام الرأسمالي، القائم على القروض الربوية، ناسياً أو متناسياً أن أكثر من ثلثي المصريين يرزحون تحت خط الفقر، ويضطرون للجوء إلى الاستدانة، لو استطاعوا إليها سبيلا، لتأمين الحد الأدنى من الطعام لأسرهم.

الطبقات المتوسطة التي تمكنت من تأمين ما يكفيها بالكاد تحتفظ بقائمة بأسماء "من تعولهم" من الطبقات الأفقر، من الجيران والمعارف ومن يساعدونهم في الأعمال المنزلية أو غيرها، حتى لا تتأخر في تقديم المساعدات الشهرية لهم، والتي لا نعرف ما كان عساهم يفعلون لو لم يحصلوا عليها، بينما المسؤولون غائبون، لا يرون ما يعانيه الفقراء المحبطون، أو مشغولون بحجز أماكنهم في الصفقات الكفيلة بتحويل كل منهم إلى مليونير، وفي بعض الأحيان إلى ملياردير.

ما زلت أذكر مشهد منح أم سعيد (إنعام سالوسة) محدودة الدخل والحيلة "العيدية" لمصري (أحمد حلمي) صديق ابنها وجارهما القديم العائد من أميركا، رغم ضيق ذات اليد الملحوظ، في الفيلم العبقري "عسل أسود"، الذي أصبحت أحداثه بكل تفاصيلها المؤلمة المبهجة مشهداً مكرراً في حياة المصريين، وهم يتغنون "فيها حاجة حلوة، فيها نية صافية، فيها حاجة دافية".

تبنت الحكومة دعوات للمواطنين بترشيد الاستهلاك للحد من الواردات، "عشان خاطر مصر"، متجاهلة أن النسبة الأكبر من المواطنين تتقشف رغماً عنها، وأن الحزام الذي تطالب المواطن بشده تم بيعه منذ فترة طويلة لشراء الطعام للأبناء، وأنه مضطر للتقشف بصورة دائمة بسبب دخله المحدود. وما زالت الدولة بكل رموزها تطلب من المواطنين أن "يقفوا مع مصر".

اتفقت مصر مع الإمارات على الحصول على 35 مليار دولار لتطوير منطقة رأس الحكمة وبناء منتجع/مدينة/منطقة سياحية، فسارعت الحكومة، بناءً على توجيهات الرئيس على الهواء، بمنح عشرة مليارات جنيه منها لصندوق رعاية "ذوي الهمم"، وعشرة مليارات أخرى لصندوق المتقاعدين، ولم نعرف بعد بصورة واضحة طبيعة الصفقة، أو نوع التعاقد، وما إذا كانت الأراضي المصرية المخصصة للمشروع قد بيعت أو أُجرت أو مُنح حق الانتفاع بها للطرف الإماراتي.

لا أحد ينكر أهمية تضامن المواطنين مع بعضهم البعض، وضرورة الشعور بالرضا بالمقسوم، وطلب المدد من الله. لكن تحول السعي إلى كفر، والطموح إلى جحود، وتراجع الاهتمام بالعلم ليصبح الدعاء بالبركة هو أهم مؤهلات نجاح الدولة في الخروج من الأزمات لا يمكن أن يكون مقبولاً، ولن يأتي بأي نتيجة، ولو وقفنا العمر كله على باب الله.

المساهمون