لُقب بـ"نمر وول ستريت"، إذ استطاع في أعوام معدودة أن يتحول من مجرد وسيط لدى إحدى شركات السمسرة، إلى "ظاهرة" داخل أروقة أكبر سوق للأوراق المالية في العالم تاركاً وراءه ثروة تقدر بأربعة مليارات دولار وكتيبة من الأشخاص الذين تربوا على نهجه.
بعد رحلة قصيرة كضابط في البحرية الأميركية، بدأ جوليان روبرتسون شغفه بعالم وول ستريت عام 1957، مديراً لإدارة السمسرة في شركة كيدر بيبودي، التي تأسست 1856 في ولاية ماساتشوستس، ثم ما لبثت أن توسعت مسؤولياته لتشمل جناح الاستثمار في الشركة، ليتركها بعد عقدين كاملين، ويقرر الانتقال إلى نيوزيلندا مع زوجته، للتفرغ للكتابة، إلا أنه ما لبث أن عاد إلى أميركا بعد أقل من عامين، لينشئ شركة إدارة الاستثمار الخاصة به برأس مال 8 ملايين دولار.
سوق المشتقات المالية تجتذب المغامرين
اعتاد روبرتسون أن ينادي من لا يتذكر اسمه بـ"النمر"، فبدأ الآخرون يطلقون عليه نفس الاسم، حتى أسمى شركته "إدارة النمر"، وأصبح هو النمر الأكبر فيها. تبنى روبرتسون منهجاً مغامراً في استثمارات الأسهم، فلم يكتف بالمراهنة على ارتفاع أسعار بعضها، وإنما حاول أيضاً الاستفادة من تراجع أسعار البعض الآخر، في وقتٍ كانت سوق المشتقات المالية قد بدأت تجتذب المغامرين من كل الأنحاء، بسبب ما تقدمه للاعبيها من أرباح مضاعفة، وأيضاً بسبب تسهيل المضاربة على تحرك أسعار الأسهم في الاتجاهات المختلفة.
وكانت لديه موهبة واضحة في التعامل مع البيانات، حتى أنه كان يستطيع حساب ما حققته محفظة مكونة من مائة سهم من عائد، بدرجة مقبولة من الدقة، بمجرد الاطلاع على أسعار الأسهم في الجرائد صباح اليوم التالي.
تمكن روبرتسون من تحقيق عائد في أول عامٍ لشركته الجديدة يقترب من 55%، وتفوق على المؤشرات الرئيسية في السوق الأميركية أغلب الأعوام التالية، وحافظ على أدائه المبهر لثماني سنوات، حقق خلالها في المتوسط عائدا سنويا يتجاوز 30%، وتمكن من تحقيق عائد يقترب من 25% في كل عام، لمدة عشرين عاما على التوالي.
تمكن النمر الأكبر من تحقيق تلك النتائج لشركته، بقدراته الفنية وشخصيته القوية، لكن أيضاً بسبب نجاحه في تدريب مئات "الأشبال" من العاملين في شركته، ليصبح من أساطير عالم الاستثمار مع كل من "جورج سورس" و"وارن بافيت"، رغم دخوله هذا العالم متأخراً بعض الشيء.
أعطى النمر أشباله أسرار النجاح، فعلمهم الجرأة في إدارة الاستثمارات، ونصحهم ببيع أسهم الشركات الجيدة لشراء أسهم شركات أفضل، وعدم المغامرة بوضع أكثر من 5% من رأس المال في سهم واحد، بالإضافة إلى الثقة في اختياراتهم، حتى في الأوقات الصعبة.
لم يكتف روبرتسون بالاستثمار في الأسهم، ولكنه أضاف إلى محافظ المستثمرين لديه السندات والعملات، وكان في طليعة من اهتموا بإنشاء "الصناديق الكلية"، التي تتخذ قراراتها الاستثمارية بناءً على تحولات الاقتصاد الكلي، التي تتسبب في إحداث تغييرات في معدلات الفائدة والعملات.
ضياع مليارات الدولارات
ورغم النجاحات المبهرة في العقدين الأولين لشركته، لم يسلم "النمر الأكبر" من الهزائم، حيث تكبد في عام 1998 خسارة كبيرة بسبب مراهنة خاطئة على الين الياباني، وتجاوزت خسارته في يوم واحد ملياري دولار.
وفي العام التالي، خسر روبرتسون ما يقرب من خُمس الأصول التي يديرها مع بداية أزمة الإنترنت، ثم أزمة الفضائح المحاسبية، فأوقف صندوقه، واتجه للعمل من خلال مساهمته بنسب كبيرة في صناديق يديرها تلاميذه، مع مشاركته في الإدارة في كثير من الأحيان.
وكانت أحدث خيبات أمله، قبل خسارة صناديقه ما يقرب من نصف قيمتها في 2022، فضيحة شركة أرتشيجوس لإدارة الاستثمارات، التي شهدت بعض المخالفات على يد أحد أشباله، وتسببت في ضياع مليارات الدولارات على المستثمرين العام الماضي.
درس روبرتسون إدارة الأعمال في جامعة نورث كارولينا، ووُصف بين من عرفوه في بداية حياته العملية بأنه يشبه الإسفنج، بسبب قدرته على امتصاص المعلومات من أقرانه وزملائه ومنافسيه، فكان يحصل على المعلومات منهم، ويحولها إلى أفكار تحقق أرباحاً للشركة والمستثمرين فيها، ولنفسه بالتأكيد.
ومع بداية أزمة الرهن العقاري، راهن روبرتسون على انخفاض قيمة بعض الأصول المرتبطة بها، من خلال تكلفة التأمين على الديون، ليحقق عائداً على الاستثمار تجاوز 76% في عام 2007.
لم يكن البحث عن الأرباح هو المحرك الدائم للنمر الأكبر، وإنما شغفه بتحدي الأسواق، ومحاولة قهرها، وإسعاد عملائه وأشباله.
وفي ما يخصه شخصياً، ضاعف النمر ثروته خمسة أضعاف خلال الفترة من عام 2000 إلى عام 2008، إلا أنه تبرع للأعمال الخيرية خلال حياته بأكثر من ملياري دولار، منها 250 مليون دولار للقضاء على الفقر في نيويورك، كما أوصى بمنح الجزء الأكبر من ثروته بعد وفاته إلى الأعمال الخيرية. رحل "النمر الأكبر" وأسطورة وول ستريت عن عمر يناهز تسعين عاماً، وثروة تقدر بأربعة مليارات دولار.