تخفي الأرقام المأساوية وراءها مصاعب يعيشها أكثر من مليون ونصف المليون عامل في الجزائر يتقاضون أجورا زهيدة لا تتعدى 20 ألف دينار (160 دولارا) ولا تغطي تكاليف معيشة شهر كامل.
ولا يزال الكثير من العمال يحلم بفرص عمل ومناصب شغل قادرة على مواجهة ظروف خانقة زادتها قتامةً "جائحة كورونا" التي ضربت مئات الآلاف من عمال الجزائر في مناصبهم وجيوبهم المنهكة أصلا بغلاء المعيشة، وتهاوي قيمة الدينار إلى مستويات تاريخية أمام العملات الأجنبية.
وفي ظل هذه الظروف الصعبة، تحركت الحكومة أخيرا في اتجاه تخفيف الأعباء عن العمال عبر رفع أجورهم، إلا أنها كانت "زيادات طفيفة لا تسمن ولا تغني من جوع"، حسب مراقبين وقيادات نقابية.
وكان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون وقّع، الأربعاء، على قرار يرفع بموجبه الحد الأدنى للأجور إلى 20 ألف دينار، (نحو 120 يورو بسعر الصرف الرسمي) وبزيادة طفيفة تقدر بألفي دينار، عن الحد الأدنى المضمون سابقاً.
ونص المرسوم الرئاسي الجديد الذي نشر أول من أمس، على أنّ القرار يسري مفعوله بأثر رجعي بداية من يونيو/حزيران 2020. كما يضع هذا الحد الأدنى المضمون للأجر بمدة العمل القانونية المقدرة بـ40 ساعة عمل أسبوعية، وهو ما يعادل 173.33 ساعة شهريا بـ20 ألف دينار؛ أي ما يعادل 115.38 ديناراً، أي أقل من دولار لساعة العمل الواحدة.
وفي وقت سابق، طالبت عدة نقابات مهنية وأحزاب سياسية الحكومة برفع الحد الأدنى المضمون للأجور بسبب الانخفاض اللافت للقدرة الشرائية للعمال والموظفين، حيث كانت نقابة موظفي الإدارة العمومية قد طالبت برفع الحد الأدنى إلى ما يعادل 200 يورو، فيما طالب حزب "العمال" اليساري، في وقت سابق، برفعه إلى حدود 54 ألف دينار، ما يعادل 340 يورو للشهر.
لكن الحكومة رفضت هذه المطالب، متذرعة بكونها تكلف الخزينة العمومية أعباء مالية إضافية، في الوقت الذي تراجعت فيه عائدات البلاد من النفط الذي يمثل 98% من إجمالي عائدات الجزائر.
راتب بلا قدرة شرائية
إذا كان "عيد العمال" يحل كل سنة على سواعد الجزائريين حاملا نفس الأوجاع، ونفس الآمال والرجاء، خاصة في رفع الأجور، ففي هذه السنة، سيحل الفاتح من مايو/أيار على العمّال حاملا تهديدا كبيرا لقوت الملايين من الأسر الجزائرية، حسب عمال وقيادات نقابية لـ"العربي الجديد".
وكلما طال تفشي "فيروس كورونا"، ارتفع عدد العمال المغادرين لمناصب عملهم، فالجائحة ضربت الاقتصاد الجزائري الهش، وأوقفت عجلته، ما أدخل العديد من الشركات "الإنعاش" بعد توقف نشاطها، يضاف إلى هذا انخفاض الأجور مقارنة مع واقع المعيش والتضخم، ما جعل الرواتب لا تصمد حتى ثلث الشهر.
ووفق دراسة أعدتها كونفدرالية نقابات الجزائر، فإن أغلب موظفي القطاع العام يعيشون بأجور لا تضمن كرامتهم، كل هذا في بلد يعيش اقتصاده انكماشا حادا بفعل تراجع مداخيل النفط، وارتفاع نسبة التضخم، وتهاوي قيمة الدينار 30 بالمائة في سنتين.
وإلى ذلك، يقول العامل الجزائري نور الدين آيت قاسي، إن "راتبه أصبح يصمد من أسبوعين إلى 3 أسابيع على الأكثر، وصار "رهينة" الاقتراض لإكمال أيام الشهر".
ويضيف العامل في مؤسسة تسيير الحدائق العمومية أن "راتبه لا يتعدى 21 ألف دينار (161 دولارا)، وهو قليل مقارنة بما تعيشه الجزائر من غليان في الأسعار، يضاف إلى ذلك مصاريف الكهرباء والماء والنقل". ولفت نفس المتحدث لـ "العربي الجديد" إلى أن "كل شيء في الجزائر ارتفع إلا الأجور ظلت مستقرة".
من جانبه، قال سائق في مؤسسة عمومية، عبد الحكيم دالي، إن "العامل الجزائري أصبح تحت خط الفقر، أنا أتقاضى 25 ألف دينار شهريا (192 دولارا)، أي أن دخلي هو أقل من 7 دولارات يوميا"، مضيفاً لـ "العربي الجديد" أن "كل شيء ارتفع سعره بقرابة 30 بالمائة في السنة الأخيرة بعد سقوط قيمة الدينار، إلا أن أجور العمال ظلت ثابتة".
وتابع: "الحكومة تتحجج بالأزمة المالية وتهاوي أسعار النفط، لكنها لا تتحجج بنفس الأسباب فيما يتعلق بأجور الوزراء والنواب والمصاريف التي يكبدونها للخزينة العمومية، من سكن ونقل مجاني وحتى الأكل مجاني."
غلاء الأسعار
عادت المخاوف في الجزائر من ارتفاع الأسعار لتتقدم المشهد الاقتصادي وتقلق الطبقة العاملة في البلاد، بعد إعلان بنك الجزائر المركزي تعويم الدينار بشكل موجه، ما ينذر بمزيد من الغلاء، ويهدد الخطط الحكومية الرامية إلى إلغاء الدعم تدريجياً.
وخسرت العملة الجزائرية أكثر من 10 دنانير أمام الدولار، منذ تفشي "وباء كورونا" في البلاد، حيث بلغ سعر الصرف 133 دينارا للدولار نهاية إبريل/نيسان 2021، بعدما كان عند 120 دينارا نهاية مارس/آذار 2020، كما ربح اليورو هو الآخر من الدينار، بعدما قفز سعره من 135 إلى 137.
وترجع خسارة الدينار لشيء من بريقه أمام العملات الأجنبية، إلى تبنّي البنك المركزي الجزائري سياسة تعويم الدينار، عند الضرورة، لمواجهة تبعات تراجع عائدات النفط وكبح فاتورة الواردات.
وفي بداية الأزمة النفطية منتصف 2014، كان سعر صرف العملة المحلية يساوى 83 دينارا لكل دولار، ثم تهاوى إلى 118 دينارا في 2018، ثم 123 طيلة 2019 ومطلع 2020.
وقدمت الحكومات المتعاقبة منذ 2014، تبريرات بأن تعويم العملة كان جزئيا فقط، والهدف منه امتصاص ارتدادات الصدمة النفطية التي أضرت باقتصاد البلاد.
وحذّر النقابي وعُضو المكتب التنفيذي للنقابة المستقلة لمستخدمي القطاع العمومي، عثمان مكيداش، الحكومة، من مغبة الالتفاف حول الزيادات التي أقرتها في الأجر الأدنى المضمون، ولو كانت ضئيلة. ويضيف نفس المتحدث لـ "العربي الجديد" أن هذه الزيادة في الأجور ليست مكسبا، بقدر ما هي مسكّن".
عمال فقراء
حتى لو تحاشت الحكومة عن إجراء دراسة متعمقة حول وضعية العمال الجزائريين من الطبقة الوسطى، تشير دراسات إلى أن ملايين الجزائريين يعيشون تحت خط الفقر. ووفقًا للخبراء، فإن أكثر من ثلث العمال معرضون للخطر، خاصة مع الانخفاض الحر في القوة الشرائية.
لم يأتِ هذا الرقم من السماء، حسب الخبير الاقتصادي والأستاذ الجامعي محمد عزوز، "بل يعتمد على حسابات بسيطة مستمدة من البيانات التي قدمها البنك الدولي، تفيد بأن أسرة جزائرية مكونة من 5 أفراد تحتاج 70 ألف دينار لتعيش بدون ديون، وبما أن 34 بالمائة من العمال الجزائريين يتقاضون أقل من 30 ألف دينار، فإن هؤلاء هم أقرب للفقر من الطبقة الوسطى".
وأضاف عزوز، في حديث لـ "العربي الجديد"، أن "سياسة الدولة في إدارة الأزمة الاجتماعية والاقتصادية تؤثر بشكل مباشر على قدرة الجزائريين على العيش الكريم، فالفشل الحكومي لعقود في تسيير أموال النفط أوصل المواطن والعامل بالأخص إلى هذه الحالة الاجتماعية".
من جانبه، أكد الأمين العام للاتحاد العام للعمال الجزائريين (أكبر تكتل نقابي)، سليم لعباطشة، أنه "رفع للرئيس الجزائري تقريرا مفصلا حول وضعية العمال خلال اللقاء الذي جمعهما في شهر مارس/آذار المنصرم، وتعهد الرئيس عبد المجيد تبون باتخاذ قرارات من شأنها حماية القدرة الشرائية للعمال، بما فيها رفع الراتب الوطني الأدنى المضمون بدءا من رواتب شهر مايو/أيار، وهو مكسب يجب مواصلة النضال لتعزيزه".
العمل النقابي حق معلق
رغم إقرارها في الدستور الجزائري في المادة 70 التي تعتبر "الحقّ النّقابيّ مُعترَف به لجميع المواطنين" وحمايتها من طرف قانون العمل الجزائري، تبقى التعددية النقابية وما يترتب عليها من حقوق نقابية في الجزائر في مقدمتها إنشاء نقابات مستقلة، وممارسة العمل النقابي، نقطة سوداء في سجل الحكومة التي عمدت إلى إجهاض العديد من المسيرات والإضرابات التي أقامتها النقابات المستقلة في البلاد، حيث تتعرض الكثير منها إلى عمليات تضييق من طرف وزارتي العمل والعدل.
وفي هذا السياق، قال رئيس النقابة الجزائرية لممارسي الصحة العمومية، إلياس مرابط، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن "وزارة العمل ومن ورائها الحكومة تريد أن تضغط على النقابات المستقلة التي أحرجتها بسلسلة الإضرابات، التي مست قطاعات التربية والصحة، وتريد أن تقمع العمل النقابي المكفول في الدستور والقانون".
وأضاف مرابط: "من المؤسف أن تعود الحكومة 30 سنة إلى الوراء وتطلب من النقابات أن تجدد طلبات الاعتماد، والمؤسف أكثر هو أن تتخفى الحكومة وراء الإجراءات الإدارية".
وفي نفس الإطار، يقول عضو الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، صالح دبوز، لـ"العربي الجديد" إن "هناك دستورا موجها للخارج يكفل الحقوق، وواقعيا أنت ممنوع من التفكير والتعبير والتصرف".
وتشهد العلاقة بين الحكومة والنقابات المستقلة توتراً منذ قرابة 4 سنوات، بعد نجاح الحكومة في تمرير تعديل نظام التقاعد عبر البرلمان، والذي رفضته النقابات المستقلة، كونه يلغي "التقاعد المسبق"، الذي يحيل كل عامل أكمل 32 سنة خدمة على التقاعد مهما كان عمره.
وأبقت على التقاعد على أساس السن، والذي يلزم العمال بإكمال سنوات العمل إلى غاية 60 سنة كاملة، وهو ما ترى فيه النقابات "اقتطاع" مكسب من المكاسب التي حققها العمال في الجزائر بعد سنوات من النضال.
وحسب المنسق العام للنقابة الجزائرية المستقلة لأساتذة التعليم الثانوي والتقني، مزيان مريان، فإن "الهدف الأساسي من لجوء الحكومة إلى مثل هذه الممارسات هو منع إقامة الإضرابات مستقبلا، وإسكات صوت الطبقة العمالية التي تريد الحكومة أن تبقيها ممثلة في نقابة واحدة موالية لها، وهو أمر غير ممكن، فالدستور كما يكفل التعددية الحزبية يكفل التعددية النقابية والعمل النقابي".
وأضاف مزيان لـ"العربي الجديد" أن "الإضرابات التي شنتها نقابات التربية والصحة والتوظيف العمومي والبريد والبنوك، نجحت في إحراج الحكومة التي لم تجد هامش مناورة كبيرا في ظل الأوضاع الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وبالتالي تسعى إلى تحييد النقابات مستقبلا، خاصة أن الجزائر تتجه نحو استحقاقات سياسية مهمة في السنة القادمة".