التونسية برئاسة هشام المشيشي مع صندوق النقد الدولي في مطلع مايو/أيار الماضي، والتي هدفت إلى حصول تونس على قرض بقيمة 4 مليارات دولار، يساهم في خفض حدة الأزمة الاقتصادية التي تعمقت مؤخراً بسبب تداعيات انتشار فيروس كورونا على القطاعات الاقتصادية الرئيسية وفي مقدمتها السياحي، وذلك رغم مرور شهرين على الحدث.
وكانت حكومة المشيشي قد تحركت نحو صندوق النقد مسبوقة بسيل من التحليلات التي سوقت أن قرض الصندوق هو الملاذ الأخير للاقتصاد، لا سيما في ظل تجاوز الدَّين العام 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وطفرة الديون الخارجية التي بلغت 30 مليار دولار، والعجز المالي البالغ 11.5% بنهاية العام الماضي، علاوة على ورطة الالتزامات واجبة السداد والتي تقارب 6 مليارات دولار، وكل ذلك في ظل انكماش اقتصادي بمعدل 8.8% وتراجع حاد للاستثمارات الأجنبية بنسبة 26% في نفس العام.
ومن الواضح أن إدارة الصندوق بدت غير متحمسة لمساندة الإدارة التونسية الحالية، حيث لم تلتزم الإدارات السابقة بالمطالب التي فرضها صندوق النقد في اتفاقيتي 2013 و2016، ويرى الصندوق أنها أضحت لا تحتمل التأجيل أو المساومة، ومن بينها إلغاء الدعم عن المواد الغذائية والمحروقات، وتخفيض الأجور في الموازنة العامة، وترشيد الإنفاق الحكومي، وحوكمة المؤسسات العامة.
وتعتبر روشتة الضبط المالي التي يفرضها الصندوق على الدول التي تضطر للاقتراض منه فخاً يعمق العوز والفقر بين سكان البلدان المقترضة، وهو الأمر الذي تحقق من قبل في العديد من الدول التي طبقت هذه الأوامر، ورغم هذه التكاليف الباهظة على عموم الجماهير، فإن الاستفادة من تطبيق البرامج لا تعدو تحسينات هامشية في بعض مؤشرات المالية العامة، ولم تحدث في أية تجارب سابقة نقلة يمكن الاستشهاد بها في النواحي الإنتاجية الصناعية أو الزراعية، أو حتى تحسينات في الخدمات العامة، بل تكون قروض الصندوق مقدمة للمزيد من القروض والتدخلات التي لا تنتهي، والتي ترهن البلدان والشعوب لإدارة الصندوق ومن خلفها قوى الهيمنة العالمية.
يصب تردد إدارة الصندوق في الاستجابة للحكومة التونسية في مصلحة التونسيين، حيث تمر البلاد بأزمات سياسية متلاحقة وحالة من الغليان الداخلي، بعد فشل حكومات ما بعد الثورة في تحقيق التطلعات الشعبية إلى توفير الحياة الكريمة جنباً إلى جنب مع الحرية والكرامة الإنسانية، وبالتالي، فإن الانصياع لروشتة الصندوق كان سيزيد الأوضاع الداخلية توتراً، ويؤخر الاستقرار المنشود والمتأخر كثيراً من الأساس.
كما أن هذا التردد دفع الحكومة التونسية نحو البحث عن البدائل الأخرى المتاحة، والتي يمكن أن تعوض الاقتراض من الصندوق، خاصة أن هذه المرة الرابعة خلال 10 سنوات التي تطلب فيها تونس مساعدة الصندوق، ومن المنطقي أن يتساءل الشعب التونسي: أين ذهبت القروض السابقة وما هي أوجه الاستفادة التي حققتها تونس منها؟
وبعيدا عن طرق تونس باب صندوق النقد لحل الأزمة المالية الحادة، تبحث الحكومة عن حلول أخرى، منها مثلا الحصول على دعم قطري، ومن هنا توالت الزيارات التونسية إلى العاصمة القطرية، والتي زارها الرئيس قيس سعيد في فبراير/شباط الماضي، ثم رئيس الوزراء هشام المشيشي في نهاية مايو الماضي، بالإضافة إلى زيارة وصفت بغير رسمية قام بها راشد الغنوشي، رئيس حركة "النهضة"، مطلع مايو/ أيار الماضي، وكان الهدف الرئيس للزيارات إيجاد حلول للاقتصاد التونسي، والأزمة الصحية في البلاد.
وتوجت هذه الزيارات بتوارد أنباء حول وديعة قطرية بقيمة ملياري دولار للبنك المركزي التونسي، حيث نشر مستشار رئيس حركة النهضة رياض الشعبي تدوينة على حسابه الرسمي، أشار فيها إلى النتائج الاقتصادية لزيارة المشيشي لقطر، ومن بينها مليارا دولار في شكل قرض ووديعة بنسبة فائدة ضعيفة جدا؛ وسيصل المبلغ إلى تونس خلال شهر يوليو/تموز المقبل.
كما امتد الاتفاق كذلك إلى تمويل قطر شراء مليوني جرعة من لقاح كوفيد 19 في شكل هدية للشعب التونسي، وتوقيع اتفاق لمضاعفة عقود العمل المخصصة للتونسيين بدولة قطر لتتجاوز 50 ألف عقد، بالإضافة إلى تبنّي قطر تنظيم "منتدى دولي للاستثمار في تونس" يوفر 25 مليار دولار لتونس على امتداد 5 سنوات، بما سيمثّل نقلة نوعية في وضعيّة الاقتصاد الوطني.
كما كثفت الدبلوماسية التونسية زياراتها الخارجية خلال الفترة الأخيرة لمواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة، حيث توجهت الزيارات إلى فرنسا التي تعهدت بدعم مطالب تونس أمام صندوق النقد، وإلى ليبيا والجزائر، وهي الزيارات التي تؤكد وجود طرق بديلة لحل الأزمة بخلاف التسويق لكون قرض صندوق النقد هو الحل الأوحد، ولا تزال المحاولات مع المؤسسات الاقليمية العربية والأفريقية مفقودة حتى الآن إلى حد كبير.
وكانت تونس قد حصلت على قرضين متتاليين من صندوق النقد العربي، الأول خلال شهر أيار/مايو 2020 بقيمة 59 مليون دولار، وبعده بشهر حصلت على الثاني بقيمة 98 مليون دولار، وذلك في إطار مجابهة فيروس كورونا ودعم برنامج إصلاح القطاعين المالي والمصرفي.
ويشير الاتفاق على المساندة القطرية وقرضي صندوق النقد العربي إلى أهمية طرق أبواب المؤسسات الإقليمية التي يمكنها دعم الاقتصاد التونسي ولو بمبالغ صغيرة، وفي مقدمة تلك المؤسسات البنك الإسلامي للتنمية بأذرعه المختلفة، علاوة على البنك الأفريقي للتنمية وما يقدمه من قروض ومساندات يمكنها المساعدة في إعادة دوران عجلة الاقتصاد التونسي.
بالإضافة إلى القوى الاقليمية والدولية التي تحاول التملص من قوى الهيمنة العالمية، والتي أصبحت تلعب أدواراً متصاعدة في تشكيل التحالفات التي تمكنها من تحرير سياساتها، والتي من المرجح أن تقدم يد العون للاقتصاد التونسي في إطار سعيها نحو تدعيم قوتها الناعمة، وفتح أسواق أرحب لمنتجاتها، ويمكن للدبلوماسية التونسية أن تستهدف مجموعة من تلك القوى التي تتوافق مصالحها مع مصالح المواطن.
أو حتى تلك القوى التي تكون كلفة مساندتها أقل حدة من اشتراطات صندوق النقد الدولي، مثل الصين، ولكن يتعين أولاً أن تمتلك الدولة الخطط الاقتصادية والاستراتيجية التي تساعد في رسم الخريطة المستهدفة بالتحالف، وفي إطار من التكامل والندية، وتحقيق المصالح المتبادلة.
من المؤكد أن تونس تمر بأزمة اقتصادية كبيرة، وأن هذه الأزمة هي تراكمات لخلل هيكلي مزمن وموروث من عهود سابقة، ومن الواضح أن الإدارات التونسية المتعاقبة لم تكن تمتلك الرؤية الاقتصادية التي تعبر بالبلاد من هذا الواقع، وأن افتقاد الرؤية، وبالتالي التخطيط السليم والتأخير، ما كلف الحكومة والشعب التونسي تعقد الأزمة وصعب حلها، وزاد كلفة الحلول، ولكن كل ما سبق لا يعني الارتماء في أحضان صندوق النقد الدولي، والانبطاح لاشتراطاته على حساب المواطن، فدائماً توجد طرق بديلة، ووظيفة الحكومات هي البحث عنها، وابتكار الأدوات والآليات التي تبعد العنت والعناء عن الشعب، أو على الأقل تقلص سلبياته إلى أقل حد ممكن.