تتجنّب السلطات التونسية الذهاب إلى غلق شامل للقطاعات الاقتصادية رغم تفشي فيروس كورونا هرباً من غضب معيشي شامل قد تفقد السيطرة عليه، بعد أن اجتاحت الاحتجاجات الاجتماعية أغلب محافظات البلاد، معلنة حالة الاحتقان القصوى في الشارع الساخط.
ورغم بلوغ الجائحة الصحية ذروتها في تونس وتسجيل معدلات قياسية للوفيات فاقت المائة وفاة يومياً لم تعلن الحكومة عن غلق شامل للقطاعات الاقتصادية، متجاهلة مقترحات طبية بتطبيق حجر صحي كامل لمدة أسبوعين تجنبّاً لانهيار المنظومة الصحية وزيادة المعدل اليومي للوفيات.
وتتجنب السلطات التونسية تحت ضغط الشارع وتفاقم الاحتجاجات المعيشية أي قرارات قد تسبب مزيداً من الفقر وقطع الرزق للفئات الفقيرة والهشة التي تواجه الوباء بجيوب فارغة.
احتجاجات متصاعدة
يلوذ التونسيون منذ أكثر من أسبوعين بالشوارع في احتجاجات منظمة وأخرى عشوائية للتعبير عن غضبهم مما آلت إليه الأوضاع في بلادهم بعد عقد من الثورة التي أسقطت نظاماً لم يحقق مطالب الشغل والحرية والكرامة الوطنية.
ومددت اللجنة الوطنية لمجابهة كورونا في آخر اجتماع لها الجمعة الماضي تدابير الحجر الصحي الموجه، مكتفية بإعلان التشدد في تطبيق البروتوكولات الصحية مع السماح لبعض القطاعات الخدماتية بالعودة إلى العمل.
كذلك سمحت الحكومة للقطاعات التي خضعت لتقييدات صارمة بالعودة إلى العمل، ومنها قطاع المقاهي والمطاعم إلى جانب قطاعات خدماتية أخرى ذات طاقة تشغيلية عالية.
وقال المتحدث الرسمي باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، رمضان بن عمر، إن حوالي 900 ألف عائلة في تونس هي في حكم الفقر الشديد، أي أكثر من 3 ملايين و200 ألف تونسي هم في وضعية هشاشة شديدة، ما يمثل أكثر من 27 بالمائة من السكان.
وأفاد بن عمر بأن قرارات الغلق في وقت سابق دون اتخاذ إجراءات مرافقة ومساعدة للفقراء زادت من تعميق الأزمة، وهو ما يفسر الغضب المعيشي المتفاقم وخروج الناس إلى الشوارع للاحتجاج رغم مخاطر العدوى وتزايد الإصابات.
وأكد المتحدث باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في تصريح لـ"العربي الجديد" أن الحجر الصحي ألحق جزءاً من الطبقة الوسطى، ولا سيما العاملون منها في الحرف والتجارة، بخانة الفقراء نتيجة انحسار الدخول، مشدداً على ضرورة توفير المساعدات اللازمة لهذه الطبقات قبل أي قرارات جديدة
وأضاف بن عمر أنه بالرغم من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة السابقة، برئاسة إلياس الفخفاخ، إبان الموجة الأولى من الغلق الشامل لمساعدة المؤسسات والحفاظ على مواطن الشغل إلا أن عديداً من المؤسسات أغلقت وسرّحت عمالها ليلتحق العاطلون عن العمل بصفوف الفقراء والمحتجين، وفق قوله.
انتظار الدعم الحكومي
وبعد أكثر من 7 أشهر من الإعلان عن حزمة إجراءات بقيمة 1.5 مليار دينار (الدولار = 2.75 دينار) لفائدة الأفراد والمؤسسات المتضررين لا تزال القطاعات الاقتصادية تنتظر الدعم الحكومي، فيما لم يحصل العمال المحالون على البطالة الفنية على أي تعويضات.
وطلبت الحكومة من الأجراء والمؤسسات المتضررة من الغلق التسجيل على منصة إلكترونية للحصول على التمويلات اللازمة في شكل تعويضات أو قروض بنكية بضمان حكومي.
ووفق بيانات رسمية كشفت عنها الشركة التونسية للضمان لم ينتفع من تمويلات الدولة إلا 1250 مؤسسة من مجموع 750 ألف مؤسسة بسبب عدة إشكاليات رافقت آلية ضمان الدولة وعزوف البنوك عن منح قروض للمؤسسات الاقتصادية وصغار الحرفيين والصناعيين.
وبسبب "فشل" منظومة التعويضات أعلنت الحكومة مؤخراً عن إعادة فتح مجال التسجيل على المنصة في بداية فبراير/ شباط المقبل.
تهديدات عمالية
وهدّد عمال قطاع المطاعم بالنزول إلى الشوارع والتحام 700 ألف من العاملين فيه بالاحتجاجات في كل محافظات البلاد بسبب تقييد العمل وتواتر الغلق في أكثر من مناسبة بمقتضى قرارات حكومية لا تأخذ بعين الاعتبار خصوصية النسيج الاقتصادي في البلاد، وفق ما أكده رئيس الغرفة الوطنية للمطاعم، إسلام شعبان، في تصريح لـ"العربي الجديد".
وقال شعبان إن العاملين بالقطاع متعطلون عن العمل منذ أشهر، وإن أصحاب العمل اضطروا إلى تقليص الأجور بنسب تتراوح بين 50 و70 بالمائة، غير أنهم مطالبون في المقابل بدفع الضرائب ومساهمات الضمان الاجتماعي.
وأضاف أن الحكومة لم تحترم تعهداتها ولم تمنح عمال قطاعات المقاهي والمطاعم أي تعويضات عن فترة الغلق الأول في شهر مارس/ آذار 2020، متسائلاً كيف لحكومة لا تحترم تعهداتها أن تطلب من الأجراء الفقراء التقيد بالحجر والغلق وتتركهم في مواجهة العوز والجوع.
واعتبر أن الاحتجاج واللجوء إلى الشوارع باتا الحل الوحيد أمام عمال القطاع لجلب انتباه السلطة رغم السماح لهم بالعودة إلى العمل بشكل جزئي.
وقال صندوق النقد الدولي في تقرير نشره الجمعة الماضي إن السلطات التونسية تواجه تحدياً مزدوجاً في الوقت الراهن يتمثل في ضرورة إنقاذ الأرواح والحفاظ قدر الإمكان على الظروف المعيشية إلى أن تنحسر الجائحة، مع البدء في إعادة اختلالات المالية العامة وميزان المدفوعات الخارجية إلى مسار مستدام.
أولوية الحماية الاجتماعية
واعتبر صندوق النقد الدولي أنه من الضروري إعطاء أولوية مطلقة للإنفاق على الصحة والحماية الاجتماعية، مع السيطرة على كتلة الأجور، وعلى دعم الطاقة غير الموجهة إلى المستحقين، والتحويلات إلى المؤسسات العمومية.
ويشجع خبراء الصندوق السلطات على مواصلة تعزيز شبكات الضمان الاجتماعي التي تستهدف المستحقين وإعطاء أفضلية للاستثمار العمومي الداعم للنمو.
لكن الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، دعا صندوق النقد إلى تفهم هشاشة الوضع الاجتماعي،
وقال الطبوبي في حوار أدلى به أول من أمس، لوكالة "رويترز"، إنه "على صندوق النقد والمقرضين أن يتفهموا خصوصية الوضع الاجتماعي الهش في تونس، في البلد الذي يُعتبر استثناءً في المنطقة". وأضاف أن الاتحاد يريد أن يتفاوض مع حكومة قوية للاتفاق بشأن الإصلاحات الاقتصادية، لافتاً إلى أنه مستعد لدراسة كل المؤسسات العامة حالة بحالة.
ومنذ عام 2017 حذرت لجنة الشؤون الخارجية في "الجمعية الوطنية الفرنسية" من أن هناك "خطرا كبيرا من انفجارات اجتماعية جديدة" في تونس في ظل "غضب شعبي متزايد" من تردي الأوضاع المعيشية وعجز السلطات عن "الاستجابة بسرعة ونجاعة" للمطالب الاجتماعية الملحّة.
ولاحظ التقرير أن التونسيين "فقدوا الثقة بالمؤسسات والمسؤولين المحليين والنقابات والسياسيين" وأن الاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب السياسية والجمعيات أصبحت تواجه صعوبات كبيرة في "تأطير وتصريف مشاعر السخط الاجتماعي المتنامية".