تنبؤات صادمة ودراويش الأمل الكاذب

02 اغسطس 2022
القيمة الشرائية للجنيه تنخفض وأسعار السلع تواصل الارتفاع بمتاجر القاهرة (getty)
+ الخط -

تنبأ خبراء الاقتصاد بتعرض مصر لصدمة مالية حادة منذ أشهر. واجهت الحكومة تلك التنبؤات بإنكار غريب، وحاولت تسويق الأزمة المالية الشديدة، التي ظهرت معالمها بعد جائحة كورونا، وأصبحت كاشفة لكل مساوئنا، مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، بأنها ستمر بدون خسائر.

تنبؤات الخبراء لا تأتي من فراغ، فهناك قراءة دائمة للأرقام الرسمية والخاصة، والوقائع التي نعيشها. فالخبير الاقتصادي يقوم بدور حيوي، مثل الطبيب الذي يدرس حالة المريض السريرية، من واقع الكشف العيني، والتحليلات التي يطلبها، والتاريخ المرضي للحالة، قبل أن يشرع في وضع مسار للعلاج، الذي يقتضي البتر في بعض الحالات للشفاء.
مشكلة النظام أنه يلجأ لقراءة الطالع ودراويش السلطة، ليعرف المستقبل، رغم أنه يدفع مليارات الجنيهات لأجهزة اقتصادية رسمية في الدولة، يفترض أنها تعينه على اتخاذ القرار الصحيح.

ويدفع ملايين الدولارات، في طلب دراسات من مؤسسات مالية كبيرة، يستعين بها في كتابة تقارير عن حالة الاقتصاد بالدولة.

الفارق بين الحكومة الرشيدة والأنظمة التي تعتقد في نبوءات الدراويش أن الأولى تعترف بدور العلم، في علاج المشكلات المستعصية، أما الثانية، فتخشى مواجهة الحقيقة المرة، وتدفع بالحقائق تجاه التضليل والناس للعيش في الأوهام.
مرت الشهور الأولى من العام الحالي، والاقتصاد المصري ينزلق من سيئ إلى أسوأ. قدمت مؤسسات مالية كثيرة المشورة للحكومة، لتساعدها على المرور من الصدمة بأقل خسائر.

استغلت الحكومة بعض هذه التقارير لرفعها في وجه البنك الدولي وصندوق النقد، والاتحاد الأوروبي وغيرها، طلباً لمزيد من القروض والمعونات، بينما في الداخل تستغلها في رفع أسعار السلع والخدمات.
لم يعد هناك وقت لإنكار أزمة يدفع الناس تكاليفها، أثناء شراء أكلهم ومشروباتهم، واحتياجاتهم اليومية. رفع خبراء البطاقة الصفراء، في وجه النظام، ليخبروه أن الأمر خطير، مع ذلك قوبل الرأي الحر بسخرية، وانتقاد، يخرج صاحبه من وجهة نظر النظام من عباءة الوطنية.
بعدما خفضت الحكومة قيمة الجنيه المصري عدة مرات، ورفعت أسعار القطارات والمترو، في مطلع أغسطس/ آب الجاري، وبعدما رفعت أسعار المواصلات الخاصة والوقود الشهر قبل الماضي، لم يعد أمامنا إلا الكارت الأحمر لنشهره في وجه سلطة تأخذنا إلى مجهول تعلمه، لن يزيد المصريين إلا فقراً وانقساماً.
مؤشرات الكارت الأحمر رفعتها العديد من المؤسسات المالية المحلية والدولية، لكن نرصد بعض ما ذكره التقرير الذي أصدرته مؤسسة "فيتش سوليوشنز لأبحاث المخاطر" مطلع شهر يوليو الماضي.

يتوقع الخبراء الذين أعدوا التقرير أن ينخفض الجنيه مقابل الدولار، على مدار العامين القادمين ليصل إلى 19.61 جنيهاً عام 2024، مدفوعاً بضعف الاقتصاد الكلي، وصعوبة الحصول على القروض، والتسهيلات المالية، في ظل تشديد السياسة النقدية على الصعيد العالمي.
وفي استطلاع أجرته وكالة رويترز خلال الفترة من 6 إلى 20 يوليو/ تموز الماضي، شمل 19 خبيراً اقتصادياً، أكدوا أن العملة المصرية ستتداول عند 19 جنيهاً للدولار في نهاية العام المالي الحالي 2022-2023 أي في يونيو/ حزيران 2023، لتهبط إلى 19.86 جنيهاً في يونيو 2024 إلى 19.86 جنيهاً مقابل الدولار.

وتوقعت "رويترز" أن يظل التضخم في خانة العشرات ما دامت الأزمة الروسية الأوكرانية مستمرة.
سترتفع مستويات الدين العام في مصر، وفقاً لتقرير مؤسسة "فيتش" العالمية للتصنيف الائتماني، بما سيحد من جاذبية الأصول المصرية على المدى الطويل، بينما تسعى الحكومة إلى محاولة التخلص من أصول قيمتها 40 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة.
يتنبأ التقرير بأن يطلب صندوق النقد الدولي من الحكومة المزيد من المرونة في أسعار الصرف، خلال البرنامج الجديد الذي تسعى الحكومة إلى توقيعه، خلال 3 أشهر، بما يشكل خطراً سلبياً على العملة المحلية، بالإضافة إلى ما سيحدثه بنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي بزيادة أسعار الفائدة على الدولار، ما سيدفع المزيد من الحوافظ المالية الأجنبية إلى الخروج من السوق المصرية.
يسلط التقرير الضوء على المخاطر السياسية، التي سيترتب عليها ارتفاع تكاليف المعيشة، مع تسارع التضخم، وانخفاض القوة الشرائية للأسر، وتراجع الاستهلاك الخاص، بتأكيده أن القمع السياسي سيؤجج السخط، بين قطاعات من المواطنين.

ولا يستبعد التقرير سيناريو وقوع إضرابات شعبية، واحتجاجات اجتماعية متفرقة، في ظل تراجع تشغيل الشباب.
يعتقد الخبراء أن ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو الاقتصادي سيزيدان من عدم الرضى الاجتماعي على المدى القصير، ما سيقابل بقبضة قوية على السلطة خلال العقد المقبل، والتحرك ببطء نحو الحد الأدنى من الحكم الديمقراطي.
ويتوقع أن يظل الجيش ممارساً دوراً رئيسياً في النظام السياسي، خلال تلك الفترة وما بعدها، وسيظل الفاعل السياسي الأكثر نفوذاً في البلاد. وعلى الرغم من التحول الاسمي للنظام، فلا إمكانية، في رأي الخبراء، لأن تعكس الحكومة رغبات عموم السكان، في ظل عدم رغبة حكومة السيسي في التخلي عن السلطة قبل عام 2030.
يؤكد التقرير أن الدور المستقبلي للجيش سيظل كما هو في الإدارة غير المباشرة للدولة، منذ استولت القوات المسلحة على السلطة، لأول مرة في عام 1952، وأصبح يدير نحو 30% من الاقتصاد، ولكن مع وجود بيئة خارجية صعبة سيشهد للمرة الأولى بيع بعض الشركات التي يملكها، في محاولة لجمع رأس المال الأجنبي.

أمر طبيعي أن تفتح الحكومات باب الأمل أمام الناس، لتكون لديهم قناعة بأهمية وجودهم في السلطة، وإن كان ذلك مخالفاً لما يبديه الخبراء من تشاؤم تجاه نمو السوق المصرية، خلال المرحلة المقبلة.

فما نراه من نهم شديد للنظام على الاقتراض، لإقامة مشروعات بلا جدوى اقتصادية، لا عائد من ورائها إلا المزيد من الديون غير القادرين على سدادها، تصيب الناس بالغلاء الفاحش، لا يخرج عن كونه أملاً زائفاً، يحاول النظام تهدئة الناس به، بينما واقع الحال يشير إلى أن النظام في طريقة إلى مزيد من القمع للحريات الشخصية، لخوفه من تنامي السخط الاجتماعي واحتجاجات الجماهير، إذ لم يتعلم النظام بعد أن يستمع لكلام الخبراء وأصوات الشعب، فهو يؤمن بأن ما يفعله هو المسار الوحيد الصالح للشعب، وأنه يرى ما لا يراه الآخرون.

المساهمون