تناقض دور البنوك في التنمية

07 مارس 2024
البنوك في الوطن العربي لا تتصرف بأسلوب يخدم الاستثمار (Getty)
+ الخط -

تستند بنوك كثيرة في العالم على خوف السياسيين أن ينهار واحد منها أو أكثر بحكم القاعدة التي تقول: "البنوك أكبر من أن تنهار"، أو ما يقال باللغة الإنكليزية ( Banks are too big to fail)، وقد لامسنا هذا الأمر عندما اشترى البنك الاحتياطي الأميركي في نهاية عام 2008 ديونَ البنوك والمؤسسات الكبرى المتعثرة بمقدار 800 مليار دولار، إضافة إلى برنامج آخر قدره 700 مليار دولار وافق عليه قبل شهر من ذلك لدعم الشركات المتعثرة.

ولقد انتقد عدد من الاقتصاديين فكرة الإنقاذ التي نفذتها إدارة الرئيس باراك أوباما بناء على تحليل الأدبيات الاقتصادية لعميد المؤسسة الكلاسيكية الحديثة ميلتون فريدمان، ووصلوا إلى الاستنتاج بأن فريدمان كان سيعارض كل فكرة برنامج الإنقاذ (Bailout) لو ما زال حينها على قيد الحياة، إلا أن عدداً كبيراً من الأدبيات أكدت أن ما خصص لبرنامج الإنقاذ كان قليلاً. وقد وافقت رئيسة المجلس الأمن الاقتصادي الأميركي ومستشارة الرئيس أوباما عن فكرة تخصيص (1.8) مليار دولار لتلك الغاية.

وقد أيدها في ذلك عدد من الاقتصاديين المرموقين أمثال بايندر وسكوت سامز، وزاندي الذي نشر مقالاً مع بايندر يؤيدان فيه فكرة الإنقاذ، وإلا لطال أمد التراجع الاقتصادي وتعمق، ولزادت نسبة البطالة عن 10% بكثير، ولوقعت شركات كبرى جرّت معها كثيراً من الشركات المتوسطة والصغيرة.

أما الناقدون لفكرة الإنقاذ فقد قالوا إن الاقتصاديين الذين دافعوا عن البرنامج قد ساهموا في إنقاذ بنوك كبيرة تتحمل نفسها وزر الأزمة التي حصلت. فكيف يكافأ مديرو البنوك الذين يقبضون عشرات الملايين بين رواتب وحوافز وحصص في رأسمال البنوك على حساب دافعي الضريبة الأميركي.

وآخرون اتهموا الاقتصاديين الذين يدافعون عن المؤسسات التي تعثرت بأنهم فشلوا (أي الاقتصاديون) في التنبؤ بحدوث الكارثة المالية في سوق العقار الثانوي والأسهم والسندات، ولذلك يدافع هؤلاء عن سمعتهم على حساب غيرهم. ولو كان هؤلاء المدافعون أكثر حرصاً في تقييم الأمور لرأوا أن الأزمة قادمة لا محالة، ولكانوا قد حذروا منها ما يسّر الإحاطة بها وتفاديها بكلف أقل بكثير.

ولم يكتف أمر الإنقاذ عند حد تقديم مبالغ وصلت إلى حدود (1.5) تريليون دولار، ولكن أُلحِق ذلك ببرنامج آخر وهو " التسهيل الكمي" أو Quantitative Easing، وقد خفض البنك الفيدرالي الاحتياطي سعر الخصم على الديون العائدة للمصارف والمؤسسات المالية الكبرى إلى 1.5% وبحد أقصى 1.8%، وتخصيص أموال للبنوك لكي تعيد إقراضها من أجل إصلاح أحوال الشركات في السوق الفعلية (خارج وول ستريت) وهي شركات الإنتاج الكبرى لكي تتمكن من إعادة هيكلة رأسمالها، وإعادة سداد الديون المستحقة عليها إلى هذه البنوك.

وبفضل هذه الإجراءات كان عدد الشركات المالية التي فشلت محدوداً وأهمها شركة " ليهمان بروذرز" والتي بلغت ديونها 600 مليار دولار عام 2008 بسبب توسعها في الدين العقاري الذي شهد انتكاسة كبرى، ما أدى إلى تراجع أسعار سنداته الثانوية كثيراً.

وقد ساهم أمران قلما يتحدث فيهما أحد؛ الأول أن البنوك والمؤسسات المالية في نيويورك وفي المدن الكبرى والشركات الإنتاجية تمارس ضغوطاً كبيرة عبر تبرعاتها للمسؤولين الأميركيين وأعضاء الكونغرس وغيرهم إبّان حملاتهم الانتخابية. والأمر الثاني هو أن عدداً كبيراً من المساهمين والمديرين والمحامين والاقتصاديين العاملين لهذه المؤسسات الكبرى أو فيها هم من الأقلية اليهودية في الولايات المتحدة.

وقد جاء رؤساء البنك الفيدرالي الاحتياطي منذ تسلّم "آلان غرينسبان" مروراً بـ " بن بيرنانكي"، ومن بعده " آرتر بيرنز"، ثم جاءت "جانيت يللين" والذين كانوا أيضاً من التبعية اليهودية، وبالتأكيد هم أكفاء، ولكن اختيارهم ليكونوا رؤساء للبنك الاحتياطي الفيدرالي بهذا التتابع لم يكن مصادفة.

وقد ساهم هذان السببان أعلاه في إبقاء التضخم ضمن حدود آمنة، وساهم أيضاً في إعادة إنعاش الدولار، وفي زيادة معدلات النمو في الولايات المتحدة، ولكن سياساتهم جميعاً كانت تصب في اتجاه واحد، وهو إبقاء البنوك والمؤسسات المالية مثل "غولدمان ساكس"، وتشيس، وويلز فارغو، وبنك (US Bank)، وبنك ترست وغيرها عاملة بنشاط. ولهذا صار بقاء هذه البنوك محاطاً بظروف موضوعية.

وقد كان للأزمة الأميركية بالتأكيد أصداء كبيرة وواسعة داخل البلدان الأخرى التي عانت وتحملت كُلف السياسات المالية الأميركية ببلايين الدولارات من الخسائر لصالح الاقتصاد الأميركي.

ويجب أن نستدرك بعض الدروس الهامة، وهو أن كبر البنوك وزيادة تحكمها في الاقتصادات الكلية للدول قد مكنها من أن تسيطر بفضل تشابكها على اقتصادات العالم، ولذلك كثر المؤلفون والاقتصاديون الذين حذروا من سوء توزيع الثروة والدخل في العالم أمثال الفرنسي (توماس بيكيتي) والأميركي (جوزيف ستغلتز) وغيرهما قد أدركوا هذه الحقيقة المرة، والتي ازدادت حدة في عصر التمدد المصرفي.

إن اصطلاح البنوك أقوى من أن تنهار قد ورد عام 2008 على لسان الكونغرسمان الأميركي من الحزب الجمهوري واسمه ستيورات مكني (Stewart Makinney)، ولم يدرك الرجل حينها قيمة هذه الجملة، وهي تخدم البنوك أكثر مما تفيد المتعاملين معها سواء كانوا مقترضين أم مودعين. وإذا كان الضرر الفادح الذي ينتج عن إفلاس البنوك يتحمل وزره أفراد الشعب عامة، فلا بد إذن من تصويب العقد الاجتماعي الممارس وغير المعلن بين المصارف والمؤسسات المالية من ناحية والناس من ناحية أخرى.

فالمصارف تحدد أسعار الفوائد على المقترض والمودع، ولكنها تضع رسوماً إضافية مثل رسوم سحب القرض، رسوم فتح الحساب، تقليص الفوائد أو عدم دفعها للمودع إذا سحب وديعته قبل استحقاقها، أو عدم إرجاع الفوائد المحسوبة على القرض في فترته المبكرة إذا قرر تسديده دفعة واحدة قبل موعد إطفائه.

ومن البنوك من يقدر قيمة كفالة القروض أو ضمانها (خاصة العقار) بأقل من قيمته، ويمنح قرضاً جزئياً من المبلغ الذي قدر به العقار، وإذا قصّر المقترض عن الدفع، طرح العقار للبيع وفق المزايدة، وإذا نقصت قيمة العقار المباع عن باقي الدين المستحق للبنك، لاحق البنك ذلك الزبون بالفرق على خلاف الممارسات في العالم.

هذه الممارسات لا تحاسَب البنوك عليها، ما يجعل كلفة الاقتراض أعلى مما تبدو، وعوائد الإيداع والادخار أقل مما يجب أن تكون عليه، والفارق في الحالتين يذهب لحساب أرباح البنك.

ولو وقف الأمر عند هذا الحد لقلنا آمين، ولكن البنوك في الوطن العربي الإسلامية منها والتقليدية لا تتصرف بأسلوب يخدم الاستثمار، فهم في غالبيتهم يفضلون القروض الاستهلاكية، وبخاصة السلع المستوردة القابلة للتقسيط، وهم أيضاً يترددون في منح قروض رأسمالية لإنشاء شركات جديدة، أو شركات مغامرة (Venture Capital) خاصة للشباب، ولا يمنحون المال المناسب لتوفير التمويل التجسيري الكافي ما يضيع كثيراً من الفرص الاستثمارية الناجحة.

موقف
التحديثات الحية

من المتوقع أن تنفق الدول العربية على التنمية والإعمار وإعادة الإعمار خلال السنوات العشر القادمة مبالغ تتراوح بين 8-10 تريليونات دولار، هذا إذا أخذنا بالاعتبار أنها جادة في تنفيذ تلك البرامج. ولربما تحتاج إلى تريليونين تمويلاً جارياً لإنجاز هذه المشروعات وتزويدها بالمعدات والأجهزة والأثاث المطلوب. فمن أين ستأتي بهذا التمويل إذا بقيت المصارف محافظة وتقوم بالإدارة على أساس تجنب المخاطر في قراراتها الائتمانية والاستثمارية.

بنوكنا في حاجة إلى إعادة النظر في أسلوب إدارتها للأموال، فهي ليست مجرد وسيط مالي كما كان يقول لنا الاقتصاديان (Gurley & Shaw)، بل هي منتجه للتنمية بحسن إدارتها للأموال المتاحة لديها. حينما تبدأ البنوك بالانحياز لمصلحة القرار المالي التنموي تستحق أن يحافظ عليها إن تعثرت أو واجهت مشكلات، أما أن تُحمى عندما تتهاوى بقرارات مديريها المحافظة وغير المدركة لأهمية دورها، فلماذا ننقذها حين يكون من الأجدى خلق غيرها؟

المساهمون