تعتبر الانتخابات الرئاسية الأميركية مغامرة باهظة الثمن، فقد يبدو للوهلة الأولى أنّ وقوف المُرشَّح للرئاسيات على المنصة لإقناع الناس بالتصويت لمصلحته ليس مكلفاً، لكن الواقع مختلف تماماً، حيث ينفق المُرشَّحون والأحزاب والمانحون الأثرياء والأطراف الداعمة الداخلية والخارجية مليارات الدولارات.
وعادة ما تفوق تكاليف هذه الانتخابات الناتج المحلي الإجمالي السنوي لبعض الدول من خارج الولايات المتحدة، وتساهم المصاريف على الموظفين والسفر والإقامة أثناء التجوُّل في الولايات المتحدة والإعلانات بمختلف أنواعها في ارتفاع تكاليف الحملات الانتخابية في أميركا بسرعة كبيرة.
لقد تسارعت وتيرة الإنفاق على الانتخابات الرئاسية الأميركية في القرن الحادي والعشرين، وتعتبر انتخابات عام 2020 هي الأعلى تكلفة في تاريخ الولايات المتحدة بمبلغ قياسي سيصل إلى 10.8 مليارات دولار، أي ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لغينيا الاستوائية أو تشاد لعام 2019، وفقاً لمركز السياسة المستجيبة (Center for Responsive Politics)، وهو عبارة عن مجموعة بحثية أميركية غير ربحية تتعقَّب الأموال التي تدور في عالم السياسة وتقيس تأثيرها على الانتخابات والسياسة العامة في الولايات المتحدة.
وأشار هذا المركز إلى أنّ مبلغ الإنفاق الإجمالي على الانتخابات قُدِّر بـ 7.2 مليار دولار في نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2020، وتوقَّع ارتفاع هذا المبلغ بمجرَّد الإعلان عن نتائج جمع التبرّعات في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2020، حيث يُمثّل الديمقراطيون واللجان التابعة لهم الآن، وفقاً للمركز، 53.69 بالمائة من إجمالي ذلك الإنفاق.
وهكذا تُحطِّم الانتخابات الأميركية لعام 2020 كل الأرقام القياسية السابقة، فقد كلَّفت الانتخابات السابقة حوالي 6.5 مليار دولار سنة 2016، نحو 6.3 مليار دولار سنة 2012 و5.3 مليارات دولار سنة 2008، ومن أجل القيام بمقارنة عادلة، يمكن تعديل تلك الأرقام وفقاً لمعدلات التضخم، وبالتالي تكون الانتخابات السابقة قد كلَّفت حوالي 7 مليارات دولار سنة 2016، 7.1 مليارات دولار سنة 2012 و6.3 مليار دولار سنة 2008، حسب مركز السياسة المستجيبة.
وجدير بالذكر أنّ جائحة كورونا تسبَّبت بظهور تكاليف إضافية بسبب التغييرات التي فرضتها على سيرورة الحملات الانتخابية كالتغييرات التي مسَّت طريقة تواصل المُرشَّحين مع الناخبين والمانحين، حيث تمَّ إنفاق ملايين الدولارات على الإعلانات الرقمية بغية جذب المتبرّعين وتحفيز الناخبين على طلب بطاقات الاقتراع عبر البريد.
فقد أفادت دراسة بحثية أشرف عليها كل من مشروع ميديا "The Wesleyan Media Project" ومركز السياسة المستجيبة بأنّ حملة المُرشَّح الديمقراطي جو بايدن قد تفوَّقت على حملة الرئيس دونالد ترامب من ناحية الإنفاق على الإعلانات التلفزيونية والإذاعية والرقمية منذ الخامس من سبتمبر/أيلول 2020، فقد أنفق فريق بايدن أكثر من 94 مليون دولار على تلك الإعلانات في الوقت الذي لم يتعدَّ فيه إنفاق حملة ترامب 41 مليون دولار خلال الشهر الماضي.
كما تلعب التبرّعات دوراً بالغ الأهمية في منحنى الإنفاق على الحملات الانتخابية، فمع نهاية شهر سبتمبر/أيلول 2020 جمع فريق بايدن تبرّعات بقيمة 466 مليون دولار، بينما جمع فريق ترامب تبرّعات أقلّ بقيمة 325 مليون دولار.
ويُعزى ذلك الارتفاع في جمع التبرّعات من قبل فريقي المُرشّحين، حسب استطلاعات الرأي التي أجراها مركز السياسة المستجيبة، إلى وفاة قاضية المحكمة العليا روث بادر غينسبيرغ والمناظرة الرئاسية الأولى، وكذا احتدام معركة السيطرة على الكونغرس.
ولا ينبغي تجاهل مساهمة المتبرّعين الصغار الذين يتبرّعون بمبلغ لا يزيد عن 200 دولار والذين ازدادت أهمية مشاركتهم في تمويل الحملات الانتخابية منذ عام 2016، فعلى سبيل المثال جمعت السيناتور إليزابيث وارن وبيرني ساندرز 76 بالمائة و56 بالمائة على التوالي من إجمالي أموالهما بالاعتماد على هذه الفئة من المتبرّعين خلال انتخابات التجديد النصفي لعام 2018.
وتُمثّل تبرّعات هؤلاء المتبرّعين 22.24 في المائة من إجمالي الإنفاق على الحملات الانتخابية لعام 2020 مقارنة بـ 14 في المائة قبل أربع سنوات وفقاً لمركز السياسة المستجيبة الذي أشار أيضاً إلى أنّ التمويل الذاتي من جانب المُرشّحين لحملاتهم الانتخابية يُمثِّل 17.71 بالمائة من إجمالي الإنفاق الذي ساهمت فيه أيضاً "فئة المتبرّعين الفرديين بمبالغ ضخمة" بنسبة 38.58 بالمائة.
ليس غريباً أن يصل الإنفاق على الانتخابات الرئاسية الأميركية إلى حدّ التبذير الذي يتطلَّب من المُرشَّح أن يكون بارعاً في جمع التبرّعات لحملته، وإلاّ سيجد نفسه عاجزاً عن جذب أصوات العديد من الناخبين لاسيَّما السود وذوي الأصول الإسبانية والمسلمين.
فالسفر وحده ما بين الولايات الأميركية لحصد أصوات المزيد من الناخبين يُكلِّف المُرشَّحين مبالغ كبيرة، فعلى سبيل المثال أنفقت حملة بايدن 4.8 ملايي دولار على السفر هذا العام، بينما أنفقت حملة ترامب مبلغاً أقلّ من ذلك يُقدَّر بـ 3.2 ملايين دولار، وكِلا المبلغين يقلّان بكثير عن مبلغ الـ12.5 مليون دولار الذي أنفقته حملة كلينتون على السفر خلال الأرباع الثلاثة الأولى من عام 2016.
لقد ازداد الإنفاق الانتخابي بشكل كبير منذ صدور قرار Citizens United سنة 2010 والذي يتيح للمُرشّحين تلقِّي تبرّعات غير محدودة من الشركات والنقابات التي ساهمت هذا العام بـ 5.04 بالمائة من إجمالي الإنفاق على الانتخابات الرئاسية الأميركية، ولكن وجود ثغرات في ممارسات الإفصاح يمكن أن يرفع حجم الأموال الآتية من مصادر مجهولة والتي يمكن أن تجعل الإنفاق الانتخابي في أميركا أقلّ شفافيةً وأكثر غموضاً في المستقبل.
خلاصة القول إنّ حجم الإنفاق على الحملات الانتخابية ليس معياراً فاصلاً لتحديد الناجح في السباق الرئاسي الأميركي، فسبق أن خسرت المُرشَّحة هيلاري كلينتون التي أنفقت 768.5 مليون دولار، بينما فاز منافسها ترامب الذي أنفق 440 مليون دولار في انتخابات 2016.
وبما أنّ كفّة النجاح في انتخابات 2020 تميل بشكل أكبر لصالح المُرشَّح الديمقراطي بايدن، فينبغي عليه ألا يستنزف أكبر قدر ممكن من الأموال قبل يوم الانتخابات المقرَّر في الثالث من نوفمبر/تشرين الثاني 2020، وأن يحتفظ بقسط مهم من الأموال من أجل المعارك القانونية في حال خسر ترامب وقرَّر الطعن في النتائج ورفض رفضاً قاطعاً مغادرة البيت الأبيض وتسليم السلطة بشكل سلمي وودِّي.