يتوقع مراقبون أن يعود السودان مرة أخرى للعزلة الدولية مع تصاعد حدة الاشتباكات، فضلاً عن عوامل أخرى تعصف باقتصاد الدولة المنهك من ارتفاع التضخم وتوقف العمل في المشاريع الإنتاجية، وتفاقم عجز الدولة مع توقف المساعدات الدولية بسبب الانقلاب العسكري في 25 من أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2021.
وعانى السودان من الحروب والنزاعات الأهلية حتي قبل إعلان الاستقلال في العام 1956. إذ إن حرب الجنوب اندلعت قبل استقلال السودان بعام، ولعبت الدور الأكبر في عدم استقرار الأوضاع في السودان، وتسببت في أغلب الانقلابات العسكرية كرد فعل على ضعف تعامل الحكومات الحزبية آنذاك مع النزاعات العسكرية.
وتسببت الحرب الأهلية في جنوب السودان في إعاقة معظم خطط السودان الاقتصادية، لأن موارد السودان المالية شحيحة جدا، ولهذا السبب تبنى نظام الإنقاذ فكرة إعطاء جنوب السودان حق تقرير المصير لإنهاء خمسين عاماً من الحرب الأهلية. أما الحرب الأهلية في دارفور فقد عصفت بأموال البترول وتسببت في تعاظم الأزمات.
ويقول أستاذ الاقتصاد محمد توم لـ"العربي الجديد" إن "السودانيين أصبحوا مستهلكين فقط وغير منتجين، الأمر الذي رفع من فاتورة الاستيراد وأدى إلى التشوهات التي نراها اليوم، فلا توجد تنمية بلا تفعيل للموارد، وحتى هذه التنمية تتطلب وقف نزيف الدم الذي يحدث بين المكونات السودانية، قبلية كانت أو مناطقية، وهذا يشكل عنصر ضغط على الاقتصاد".
وسبق أن أدرجت الولايات المتحدة اسم السودان ضمن الدول الراعية للإرهاب منذ عام 1993، نتيجة لسوء إدارة النظام السابق برئاسة الرئيس المخلوع عمر البشير، حتى أصبح السودان منبوذا، ويعمل خارج المنظومة الاقتصادية العالمية. وتلفت مصادر "العربي الجديد" إلى أن العزلة خلفت نسبة بطالة بلغت 80 في المائة، إلى جانب اختفاء القروض من منظمات دولية. وبعد سقوط نظام البشير في إبريل/ نيسان 2019، دخل السودان في مرحلة انتقالية تحت قيادة مجلس حاكم يديره المدنيون والعسكريون وحكومة تكنوقراط، لذلك أعلنت واشنطن رفع اسم السودان عن اللائحة بعد فترة دامت 23 عاما.
ويشرح الاقتصادي عبد العظيم المهل لـ"العربي الجديد" أن وضع السودان على القائمة السوداء ترتبت عليه آثار اقتصادية كبيرة، فالولايات المتحدة تمثل ربع الاقتصاد العالمي وثلث أسواق المال، وتفاقمت المشكلة مع العلاقات السيئة مع دول الخليج ومصر والكثير من الدول الأفريقية بالإضافة إلى الدول الغربية، الأمر الذي أثر على التعاملات الخارجية مع كل هذه الدول. ويلفت إلى الأضرار التي لحقت بالقطاع المصرفي وميزان المدفوعات وسعر صرف العملة وارتفاع البطالة إلى 60 في المائة وسط خريجي الكليات التطبيقية و80 في المائة وسط خريجي الكليات النظرية، فيما اختفت المعونات والقروض من المنظمات الدولية والإقليمية.
ويضيف: "أصبحنا نستثمر في الحرب ونستورد السلاح بكثافة وهو أسوأ أنواع الاستثمار، في ظل سوء توزيع الثروة وتراجع نوعية الخدمات وتعطل عجلة مشروعات التنمية". ويلفت إلى أنه بعدما "علا صوت الرصاص، جرى إهمال الخدمات من تعليم وصحة وغيرها، وتدهور النقل البحري من 16 سفينة الى صفر والنقل الجوي من أسطول يجوب القارات إلى طائرة واحدة، وتهالكت البنى التحتية والمعلوماتية".
ويشير عبد العظيم الأموي، رئيس قسم الأبحاث في شركة أسواق المال، في تقرير بعنوان "اقتصاد السودان القشة التي قصمت ظهر البشير"، إلى أن أولى النكبات التي تعرض لها السودان كانت الإجراءات الشعبوية التي اتخذها الرئيس جعفر نميري بعد عام على انقلابه في 25 مايو 1970، حيث أعلن نميري حينها قرارا بتأميم الشركات والبنوك الأجنبية، من بينها بنك باركليز بفروعه الـ 24، وآلت ملكية الشركات الأجنبية للحكومة ووضع الجيش يده عليها.
ويشرح أن هذه القرارات والإجراءات أعاقت حركة الاقتصاد، كما أن استمرار الحرب في السودان كان له تأثير مباشر وضاغط على الاقتصاد، إضافة إلى عدم الاستقرار السياسي، حيث شهد السودان ثلاث حكومات مدنية ديمقراطية قصيرة خلال الـ60 عاما الماضية، مقابل 6 حكومات عسكرية، والآن الحكومة السابعة، هذه الحالة من عدم الاستقرار السياسي عرضت البلاد للصدمات.
ويقول إن الانقلاب في العام 1989م، بتوجهه الجديد، انتهى بوضع أميركا اسم السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب في 1993، وفرضت عقوبات اقتصادية على السودان، حيث عاش في عزلة وتفاقمت أوضاعه الاقتصادية بسبب سياسات وتوجهات خاطئة كانت تداعياتها كارثية، وقدر تأثير هذه العقوبات على الاقتصاد السوداني بحوالي 50 مليار دولار، حيث ارتفعت تكلفة التبادل التجاري وقلت الفرص الاستثمارية، وارتفعت تكلفة الاقتراض، وحرم السودان من الاستفادة من المساعدات والمنح.
وعقب الثورة السودانية على نظام البشير في ديسمبر/ كانون الأول من العام 2019، استجمعت القوى السياسية والمدنية الشعبية أنفاسها توطئة لعودة البلد إلى المجتمع الدولي عبر مؤسساته الاقتصادية المختلفة، بعد غياب دام أكثر من 23 عاماً. توافق المدنيون والعسكريون على إدارة دفة البلاد عبر وثيقة دستورية قوامها فترة انتقالية، استطاعت خلالها حكومة الفترة الانتقالية التي ترأسها عبد الله حمدوك أن تغير كثيرا في المشهد الاقتصادي المحلي والدولي، فرفعت الولايات المتحدة عقوباتها على السودان وفتحت المؤسسات الدولية أبوابها مشرعة لعودة أنظمة التمويل للشعب السوداني وقطاعاته المختلفة.
إلا أن الانقلاب العسكري الذي قام به عبد الفتاح البرهان، في الخامس والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول 2021، أنهى اتفاقاً سياسياً أُبرم في العام 2019، أطاح بموجبه شركائه المدنيين في الحكومة الانتقالية. وتأزم بذلك الوضع السياسي والاقتصادي في السودان، إثر تجميد المساعدات المالية الدولية. فضلا عن تأثيرات أخرى ظهرت بشكل أكثر وضوحا في التضخم الجامح للأسعار، وتوقف العمل في العديد من المشاريع الإنتاجية التي كانت تعتمد بشكل أساسي على التمويلات الأجنبية.
ويكشف نائب محافظ بنك السودان المركزي فاروق كمبريسي في تغريدة عن إحصائيات صادمة عن حجم الدعم والمساعدات الدولية التي فقدتها البلاد بسبب الانقلاب العسكري في الـ25 من أكتوبر. وأكد نائب المحافظ الذي أطاحه الانقلاب العسكري عن خسارة البلاد 94 في المائة من الدعم والمساعدات المالية المرصودة للإصلاح الاقتصادي جراء الانقلاب.
وبحسب نائب المحافظ السابق، فإن صافي الالتزام الذي تعهدت به الجهات الدولية يصل إلى 4.643 مليارات دولار. وقال إنه جرى دفع 268 مليون دولار منها فقط، فيما تم تجميد 4.375 مليارات دولار بسبب الانقلاب العسكري. وحصل السودان بعد ثورة 2019 التي أطاحت نظام الرئيس عمر البشير على تسهيلات وتعاملات مع منظومة المؤسسات المالية الدولية، في مقدمتها البنك الدولي الذي أقر تمويلا للسودان بقيمة ملياري دولار، لكن هذه التدفقات وغيرها من القروض والمنح الدولية توقفت أيضاً بعد انقلاب البرهان.
كذا يلفت وزير المالية السوداني جبريل إبراهيم إلى تأثير تجميد وتوقف الدعم الدولي على الاقتصاد السوداني، وقال في تصريحات إعلامية إن المساعدات الدولية توقفت، وإن تجميد المُساعدات المالية الدولية يضع علامات استفهام حول تمويل الواردات الأساسية ومصير الإصلاحات الاقتصادية، ويوضح أن التمويل الدولي شمل 500 مليون دولار لدعم الميزانية من البنك الدولي و150 مليون دولار في حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي.
ويشار إلى أن الأثر الرئيسي لتجميد الدعم الدولي سينعكس على مشروعات التنمية التي تغطي مجالات تشمل إمدادات المياه والكهرباء والزراعة والصحة والنقل، في ظل تجميد برنامج الدخل الأساسي الممول دوليا لتقليل أثر إصلاح الدعم.