في خطوة قد تقوض من نفوذ الاستثمارات العائلية في تونس وتشابك مصالحها مع أطرف سياسية في الدولة، ألغت حكومة هشام المشيشي العمل بـ27 ترخيصاً في قطاعات حيوية، تتضمن الصناعات الثقيلة والإسمنت والكهرباء والتبغ والملابس المستعملة والسياحة والنقل الخاص في المناطق الريفية وتوريد وتسويق الأجهزة الإلكترونية وإدارة المحافظ المالية.
وبمقتضى القرار الحكومي، الصادر يوم الأحد، سيسمح للمستثمرين بالعمل في هذه القطاعات دون المرور عبر تعقيدات إدارية طويلة والدخول في منافسات قد تكون غير متكافئة مع المتحصنين بالتراخيص لمنع دخول مستثمرين جدد إلى السوق.
وإلغاء العمل بالتراخيص في العديد من القطاعات الحيوية كان مطلباً متكرراً من منظمات وقطاعات أعمال واسعة، أكدت أنّ حصر مزاولة الأنشطة في كيانات بعينها يكبل المنافسة الحرة في البلاد.
وبحسب وثيقة حكومية، فإنّ التراخيص التي جرى إلغاء العمل بها تمثل نحو 10% من إجمالي التراخيص الممنوحة في البلاد والتي يُعمل بها منذ عقود طويلة، وفق وكالة الأنباء الرسمية (وات)، التي أشارت إلى أنّ الحكومة تعتزم فتح كثير من مجالات الاستثمار أمام المنافسة قبل نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، لافتة إلى طرح كراسات شروط لمزاولة الأنشطة.
وتتطلع تونس إلى تحسين ترتيبها العالمي في تصنيفات ممارسة أنشطة الأعمال، لتغير مرتبتها الحالية من المركز 78 عالمياً في تقرير التنافسية العالمي إلى مركز متقدم دولياً ومغاربياً.
ليها الحكومة جيدة عموماً، لكنّ من الضروري الكشف عما ستحويه كراسات الشروط التي ستعوض التراخيص في بعض القطاعات"، مشيراً إلى ضرورة الكشف عن مصير التراخيص الأخرى التي لم يجرِ إلغاؤها.
والتوزيع العادل للثروة بين التونسيين محل اهتمام كبير لمنظمات تونسية وأجنبية، إذ انتقدت العديد من المنظمات التي اشتغلت على هذا الملف احتكار فئة قليلة من التونسيين الثروة، وتحكّم العائلات الاقتصادية بالسوق، ما تسبب في إقصاء المؤسسات الصغيرة وعدم تمكينها من الموارد والقروض المالية حتى تكبر.
يقول وزير التشغيل السابق فوزي عبد الرحمن، في تصريح لـ"العربي الجديد"، إنّ "استقلال الاقتصاد يقتضي توفير مناخ شفاف للمتعاملين الاقتصاديين عبر مراجعة التشريعات وإلغاء التراخيص الاحتكارية، خصوصاً المتعلقة بالقطاعات التنافسية"، مشدداً على ضرورة "فك الارتباط بين السياسة والاقتصاد".
يضيف أنّ "اقتصاد الريع لا يشجع المنافسة النزيهة والحرة، بل يجعل احتكار القطاعات المربحة في يد عدد قليل من الفاعلين الذين يتمتعون بوضعية كارتل، لذا لا بد من أن تكون هناك منافسة، وحلّ الوفاق غير المعلن بين المتحكمين في السوق"، مؤكداً على ضرورة المراهنة على تطوير القطاعات المنتجة وذات القيمة المضافة العالية للاقتصاد.
يتابع أنّ القطاعات المنتجة لا تمثل أكثر من 35% من الناتج الداخلي، وهي نسبة قابلة للتطور بمساعدة الجهاز المصرفي للمؤسسات الصغرى والمتوسطة وفتح باب التمويلات أمامها من دون أيّ تمييز إلّا ما يتعلق بتقدير المخاطر الذي هو في صلب مهامه.
ويلفت عبد الرحمن إلى أنّ "اقتصاد الريع في تونس قديم ومقترن بالسلطة السياسية، بل إنّ جزءاً من أصحاب المؤسسات الريعية ممثلة في البرلمان وقد تحول دون أيّ محاولة للمساس بمصالح هذه الشركات والمجمعات الريعية من قبل أيّ حكومة تنوي القيام بإصلاحات في اتجاه التفكيك التدريجي لمنظومة التراخيص والنشاطات الاحتكارية".
وسمح نظام التراخيص الذي أرسته تونس منذ سبعينيات القرن الماضي باحتكار الثروة لدى مجموعات اقتصادية أغلبها عائلية باتت تتحكم في مفاصل الاقتصاد بفعل الهيمنة التي تمنحها التراخيص لأنشطتهم، وفق محللين اقتصاديين.
وفي السياق، يقول رئيس مجلس المنافسة رضا مصباح إنّ "بعض التراخيص يمكن أن تكون أساساً لجعل بعض المؤسسات في وضع مهيمن، كالتراخيص المتعلقة بعمليات التركيز الاقتصادي، أو الإعفاءات الخاصة بعقود التوزيع الحصري".
ويؤكد مصباح في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ مجلس المنافسة يتدخل في هذا المستوى من خلال رأيه الاستشاري غير الملزم الذي يسبق إسناد الترخيص أو رفضه من قبل الوزير المكلف بالتجارة.
يتابع أنّ التشريع المتعلق بممارسة بعض الأنشطة الاقتصادية يكرس نظام الترخيص المسبق أو يضع حواجز قانونية لممارسة النشاط، وهو ما يشكل حاجزاً أمام دخول مؤسسات جديدة للسوق ويعطي نوعاً من الحماية لبعض الأطراف النافذة في السوق من خلال محافظتها على موقعها في العديد من الأنشطة وبالتالي تكوين "لوبيات" تتحكم في بعض القطاعات.
وكشفت دراسة لمكتب المنظمة الدولية غير الحكومية "أوكسفام" في تونس، وهي منظمة تنشط في مجال نشر مبادئ تكافؤ الفرص الاجتماعية والتوزيع العادل للثروات، تحت عنوان "العدالة الجبائية، لقاح ضد التقشف"، أنّ 10% من الأثرياء في تونس يحتكمون على أكثر من 40% من الدخل الوطني، في حين لا يمتلك نصف التونسيين الأقل إمكانات مالية إلا 18% من الدخل.
وفي يونيو/ حزيران من العام الماضي، 2020، أعلنت الحكومة السابقة برئاسة إلياس الفخفاخ عن اعتزامها تفكيك اقتصاد الريع الذي تسيطر عليه كيانات عائلية كبرى، في محاولة لإفساح المجال أمام المنافسة، في البلد الذي يشهد احتجاجات مستمرة من أجل التشغيل والعدالة الاجتماعية، لكنّ منظمة رجال الأعمال وصفت حينها الخطوات الحكومية بالشعبوية المضرة بالاستثمار، محذرة من موجة جديدة لشيطنة المستثمرين.
واعتبر خبراء اقتصاد أنّ التوجهات الحكومية ليست سهلة التحقق، إذ تحتاج خطتها إلى سنوات، نظراً للجذور العميقة للمؤسسات العائلية التي تسيطر على العديد من المجالات في تونس، والتي يعود جزء منها إلى ستينيات القرن الماضي.
واستهدف الفخفاخ بالحديث عن اقتصاد الريع، الشركات العائلية التي تسيطر على أهم القطاعات الاقتصادية، ومنها القطاع المصرفي والاتصالات ومستلزمات السيارات والصناعات الكبرى، وقطاعات تأتي ضمن ما أعلنت حكومة المشيشي الحالية عن إلغاء تراخيصها وفسح المجال أمام مستثمرين جدد للعمل فيها.
ويأتي التحرك الحكومي لتعزيز مناخ الاستثمار في وقت تشهد فيه الدولة صعوبات اقتصادية انعكست بشكل كبير على وضعها المالي، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة التي تصل إلى 16.2%، إذ يبلغ عدد العاطلين من العمل نحو 676 ألف شخص، وفق البيانات الرسمية، فيما ترجح أرقام غير حكومية أن يكون الرقم أعلى بكثير متجاوزاً مليون عاطل من العمل.