هذه الرسالة خرجت أمس الثلاثاء من دولتين عربيتين في توقيت واحد وهما تونس والمغرب، فقد أعلنت وزيرة المالية التونسية لمياء الزريبي أن البنك المركزي التونسي لن يسمح بانزلاق كبير للعملة المحلية مثلما حدث في مصر عندما جرى تعويم الجنيه، وأن خفض الدينار سيكون تدريجيا وليس فجائياً، وضمن نقاشات جرت مع صندوق النقد الدولي.
وذهبت الزريبي في تصريحاتها إلى التحذير من أن الانزلاق الكبير والمفاجئ للدينار التونسي ستكون له تداعيات أبرزها زيادة معدلات التضخم مثلما حدث في مصر، حيث وصل التضخم إلى مستويات تجاوزت 32% نهاية شهر مارس الماضي.
ويذهب محافظ البنك المركزي المغربي لأبعد من ذلك، حينما يؤكد أن التحرير الكامل لسعر صرف الدرهم المغربي قد يستغرق 15 عاما كاملة، وهو ما يخالف منهج البنك المركزي المصري الذي قرر تعويم الجنيه بشكل مفاجئ على الرغم من النفي المتكرر لهذه الخطوة الخطيرة وعلى لسان كبار المسؤولين في الدولة.
ورغم المصاعب التي تعانيها عملات دول عربية عديدة منها عملات العراق والجزائر والأردن واليمن وسورية وليبيا والسودان، إلّا أن هذه الدول ترفض التحرير الكامل والمفاجئ والمطلق لعملاتها الوطنية، أي تركه للعرض والطلب، لأنها تدرك حجم المخاطر الشديدة التي تترتب على الخطوة، فالتجارب العالمية لا تحبذ أسلوب التعويم المطلق.
كما تدرك هذه الدول أن تعويم العملات الوطنية لابد أن تسبقه خطوات عدة، منها مثلا توافر احتياطي مقبول من النقد الأجنبي قادر على مواجهة المضاربات المفتعلة والمحتملة على العملة من قبل المضاربين وتجار العملة، وقادر على سداد الديون الخارجية وأقساطها والأعباء المستحقة عليها، وكذا وفاء الاحتياطي النقدي بفاتورة الواردات.
ومن بين الخطوات المطلوبة كذلك حتى يكون قرار التعويم ناجحا للاقتصاد هو تهيئة السوق للقرار تفاديا لتعرض طرف من أطراف العملية الاقتصادية لمخاطر شديدة كما حدث في مصر للمستثمرين والتجار والمستوردين، فقد ألحق التعويم خسائر فادحة للشركات وأدى لإفلاس المئات منها وخروجها من السوق.
وبالتالي ليس من المعقول مثلاً تعويم دولة عملتها الوطنية وتركها للعرض والطلب دون أن يكون لديها احتياطي كافي من النقد الأجنبي، احتياطي تواجه به عمليات المضاربة التي تجعل سعر العملة عرضة للتذبذب الشديد ما بين الارتفاع والانخفاض، وهو ما يثير فزع المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء، وكذا المستوردين والتجار.
وبدلاً من أن تحقق خطوة التعويم الهدف الأساسي منها وهو إيجاد تسعير عادل للعملة مقابل الدولار، والقضاء على السوق السوداء، وتهيئة المناخ لجذب استثمارات خارجية، يترتب على الخطوة ما هو أخطر وأعمق وهو ارتباك الأسواق سواء كانت أسواق سلع أو عملات، وهروب ما تبقى من استثمارات، وتكبد شركات قطاع الأعمال لخسائر.
التجربة المصرية المفاجئة في تعويم العملة باتت مثالا لا يحتذى به حتى داخل دول المنطقة، ذلك لأن العالم كله شاهد التداعيات الخطيرة لهذه الخطوة التي أدت لحدوث قفزات متواصلة في الأسعار، لدرجة أن معدل التضخم بات الأعلى منذ 31 عاما، كما أدى التعويم المفاجئ للعملة إلى اختفاء الطبقة المتوسطة من المجتمع، وزيادة معدلات الفقر والبطالة، وتفاقم عجز الموازنة العامة وزيادة الاقتراض الخارجي والمحلي وركود الأسواق.
ورغم أن كبار المسؤولين بالدولة المصرية خرجوا أكثر من مرة ليؤكدوا أن السوق سيستقر خلال مدة أقصاها 6 شهور، وأن أسعار السلع ستتراجع، وأن الدولار سينخفض مقابل الجنيه أو على الأقل سيستقر، وأن السوق السوداء للعملة ستختفي للأبد، الا أن هذه المظاهر لا تزال تفرض نفسها على الأرض رغم مرور الفترة المحددة، ولا تزال التجربة لم تؤت ثمارها بعد، فكل ما طرحته حتى الآن هو ثمار مر وعلقم يتجرعه المواطن صباح مساء.
تجربة مصر في تعويم عملتها الوطنية قاسية، ولذا فإن دول المنطقة تتفادى تطبيقها بسبب تداعياتها الخطيرة، والدليل على ذلك التصريحات التي خرجت من تونس والمغرب أمس.