تشهد الأسواق تباينا تجاه تهاوي الجنيه مقابل الدولار، وسط مخاوف مستثمرين وقطاع عريض من المواطنين من استمرار الحكومة بالسير في اتجاه سياسة تشدد نقدي، يدفع إلى ركود في القطاع الإنتاجي غير النفطي وزيادة معدلات الفقر والبطالة.
وفي حين "تعتبر الحكومة زيادة الفائدة وتراجع الجنيه حلا سحريا" يشجع الاستثمار الأجنبي وأصحاب المدخرات على تعويض خسائرهم المتصاعدة أمام زيادة معدلات التضخم غير المسبوق، ودعم برنامجها لترويضه، تتوقع مؤسسات مالية استمرار صعود التضخم إلى مستويات قياسية جديدة، مع تراجع جديد في قيمة الجنيه خلال عام، يراها خبراء حالة مهددة للاستقرار الاجتماعي في ظل تدهور القيمة الحقيقية للرواتب والأجور، تلتهم العلاوة المقرر صرفها 13 إبريل/ نيسان المقبل، وترفع معدلات الفقر.
ويتوقع خبراء في البنك الدولي أن يؤدي النمو البطيء والتشدد المالي والمديونية الثقيلة إلى إضعاف الاستثمار، وصدمات سلبية مع ارتفاع معدلات التضخم، لن يوقفها إلا إصلاح هيكلي شامل.
يعتقد خبير التمويل والاستثمار طارق متولي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن تصرف الحكومة ببيع المزيد من الشركات العامة أفضل وسيلة للخروج من الأزمة المالية، فهي تساهم في جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، ورفع كفاءة المنشآت والإنتاجية، بما يساهم في تقليل الفجوة بين الصادرات والواردات وتوسيع فرص العمل في القطاع الخاص وتدفق الاستثمار الأجنبي المباشر.
تغذي توقعات خبراء المزيد من انخفاض سعر الصرف، والضغط المتزايد على الدولار، حدوث موجات تضخمية تصاعدية، مع عدم قدرة الحكومة على التحكم بالأسعار، في وقت التزمت مع صندوق النقد على تخفيض الدعم، ورفع أسعار الكهرباء والوقود للحد من العجز في الموازنة ومواجهة الفقر.
كشفت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، في دراسة اقتصادية، عن آثار التشدد النقدي التي تتبعه الحكومة منذ عام 2016، وتأثير موجات الغلاء على معيشة المصريين، في تزايد الفقر والفقر المدقع، مع تراجع القيمة الحقيقية للدخل، وتعدد الموجات الأخيرة من ارتفاع معدلات التضخم وانخفاض الجنيه، بما يحرمهم من تأمين احتياجاتهم الأساسية.
تشير الدراسة إلى زيادة معدلات الفقر وقلة الغذاء، مدفوعة بانخفاض العملة وزيادة معدلات الأسعار وتكلفة المعيشة، بما يمس حقوقهم الاجتماعية والسياسية وفرص حصولهم على الغذاء الكافي الذي يستهلك نحو 50% من الدخل لدى الطبقات الفقيرة، ويحرمهم من الخدمات الأساسية، ويعمق اللامساواة.
تظهر الدراسة تراجعا في استهلاك 85% من الأسر من تناول اللحوم، كما خفضت 75% من استهلاكها البيض، و73% قللت من استهلاك الدواجن، و61% خفضت من تناول الأسماك و60% قلصت نفقاتها على شراء الألبان، بسبب ارتفاع الأسعار، وفقا لمسح ميداني أجراه المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية، في مناطق مختلفة بالمحافظات، خلال الفترة من أكتوبر/تشرين الأول إلى نوفمبر/تشرين الثاني 2022.
يشير التقرير إلى استبدال الأسر الفقيرة اللحوم والحبوب والخبز، التي وصلت نسبة الزيادة في أسعارها إلى 61.5% في فبراير الماضي، بالبطاطس والمكرونة، للحصول على عناصر غذائية بأقل تكلفة.
أوضحت دراسة المبادرة المصرية أن موجات الغلاء الأخيرة جاءت بعد صدمات متتالية، تلت قرار تخفيض العملة عام 2016، ورفع أسعار الوقود أكثر من مرة، أعقبه توقف العديد من الأنشطة مع انتشار وباء كوفيد-19، في وقت كان 31 مليون شخص يعانون من الوقوع تحت خط الفقر القومي، رصدهم جهاز التعبئة العامة والإحصاء في تقريره عن الدخل والإنفاق في مصر لعام 2019-2020، بزيادة تبلغ نحو 5%، عن المعدلات السائدة عام 2010-2011.
بلغ معدل الفقر 29.7% عام 2020، ويواجه 4.5% من السكان فقرا شديدا لا يمكنهم من تدبير حاجاتهم الأساسية يوميا. يبين التقرير أن ذوي الشرائح الدنيا الذين يعيشون في فقر مدقع عام 2019، بدخل يقل عن 550 جنيهاً، صارت أوضاعهم شديدة القسوة، مع ارتفاع معدلات زيادة أسعار الطعام والشراب والمسكن والملبس وخدمات التعليم والصحة والمواصلات والرعاية الصحية، مع تركز الفقر في المناطق الريفية، وخاصة الوجه القبلي الذي يعيش به 43% من الفقراء على مستوى الجمهورية.
أشارت الدراسة إلى أن تراجع قيمة الجنيه سيؤدي إلى مزيد من التدهور في قيمة الحد الأدنى للأجور بالجنيه مقابل الدولار، مبينا أنه على الرغم من زيادة الحد الأدنى للأجر بين عامي 2011 و2022 بأكثر من 300%، لكن قيمتها مقومة بالدولار لم ترتفع بأكثر من 5%، وبعد التراجع الكبير في قيمة العملة خلال الأشهر الأخيرة، هي مرشحة للتآكل.
تكشف دارسة المبادرة المصرية، التي حصلت "العربي الجديد" على نسخة منها، توجه الحكومة إلى رفع الدعم النقدي للطبقات المعدمة عبر برامج تكافل وكرامة اعتبارا من أول إبريل/ نيسان 2023، وفقا لاتفاق مسبق مع صندوق النقد الدولي، من 350 إلى 500 جنيه شهريا، ليصل الدعم بعد الزيادة إلى ما بين 438 و625 جنيه، بما يعادل 14.6 إلى 20.8 دولار للأسرة شهريا، رغم أن البرنامج لا يشمل تحت مظلته ما يقرب من نصف الفقراء.
أوصت الدراسة بضرورة اتخاذ الدولة قرارات حاسمة لإخراج الاقتصاد من مأزق الديون، وتعديل المسار بالتوجه نحو إنتاج سلع وخدمات حقيقية، للخروج من أزمة التضخم وتخفيض العملة، وتحسين الأجور ووقف التدهور العنيف في مستويات المعيشة.
في سياق متصل، يخشى البنك الدولي من تباطؤ حاد في النمو العالمي يعد ثالث أضعف وتيره للنمو خلال 3 عقود، ليصل إلى 1.7% عام 2023، ويلقي بظلاله على عدم قدرة مصر والأسواق الناشئة على احتواء التضخم المرتفع للغاية، ما يدفع إلى المزيد من التدهور الاقتصادي، مع استمرار الأوضاع المالية المضطربة في الولايات المتحدة وأوروبا والصين والحرب الروسية في أوكرانيا.
وحث البنك، في تقريره الأخير عن توقعاته للنمو الاقتصادي لعام 2023 و2024، الحكومة على توجيه الدعم المالي للفئات الضعيفة، في ظل زيادة نسبة السكان الذين يفتقرون إلى الغذاء الكافي ويعانون من الهشاشة الاقتصادية والمالية، التي تزيد من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية والعنف، وعادة ما يكون التعافي منها طويل الأمد.
تنصح مورغان ستانلي الحكومة بالانتقال إلى نظام سعر صرف مرن بشكل دائم، وتوسيع برنامج خصخصة واسع النطاق، بما يوفر سيولة مالية قادرة على تخفيف الضغط الواقع على الجنيه.
قال المحلل الاقتصادي فاروق سوسة في غولدمان ساكس: لم يعد أمام الحكومة إلا زيادة العرض من النقد الأجنبي من خلال مبيعات الأصول والإصلاحات أو خفض الطلب على العملة الصعبة بمزيد من الإجراءات المؤلمة.
تبلغ احتياجات التمويل الخارجي ما بين 23 و24 مليار دولار خلال العام المالي المقبل، فيما الاحتياطي النقدي الصافي يظل ثابتا عند 5.4 مليارات دولار، حتى نهاية 2025، ما يجعل الاقتصاد أكثر عرضة للصدمات الدولية، في ظل فجوة في التمويل تقدر بـ18 مليار دولار وإجراءات مالية.
تجري بعثة صندوق النقد بالقاهرة، قريبا جدا، أول مراجعة للبرنامج الثالث للإصلاح المالي والهيكلي الموقع في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، واستهدف مرونة سعر الصرف، وتخارج الدولة من أنشطة صناعية وزراعية وعقارية متعددة، مقابل بدء تنفيذ المرحلة الثانية من قرض تبلغ قيمته 3 مليارات دولار.
تعتبر مورغان ستانلي التزام الحكومة بالإصلاحات الهيكلية حجر الزاوية لتحقيق الاستقرار الكلي المستدام، مع خصخصة واسعة النطاق للأصول المملوكة للدولة والانتقال إلى سعر صرف مرن بشكل دائم، مبينة أن الضغوط على العملة الصعبة كانت موجودة قبل أزمتي وباء كورونا والحرب الروسية في أوكرانيا، واشتدت ضغطا عقب انتشار الوباء واندلاع الحرب، بسبب زيادة أسعار السلع وخاصة القمح، وتضرر عائدات السياحة التي تمثل 45% من عوائد التصدير، وخروج أموال ساخنة بقيمة 20 مليار دولار.