بلا هوادة، تواصل أسعار المواد الاستهلاكية والغذائية وفواتير الخدمات جموحها في السوق التركية، مستهدفة المواطنين والمقيمين على السواء، حيث كشف معهد الإحصاء التركي أن أسعار المستهلك ارتفعت بنسبة وصلت إلى 85.51% في أكتوبر/تشرين الأول على أساس سنوي، و3.54% عما كانت عليه في الشهر السابق، علما أن معدل التضخم هذا هو الأعلى منذ 24 عاما، وتحديدا منذ 1997.
وتشير الأرقام الرسمية إلى أن معدل ارتفاع سعر السلع الاستهلاكية كان سجل 83.45% في سبتمبر/أيلول الماضي، متأثرة بجملة من العوامل الداخلية والخارجية.
ومع ذلك، يقدر خبراء أن التضخم أعلى بكثير من الأرقام الرسمية. وقدرت مجموعة أبحاث التضخم المستقلة، يوم الخميس، المعدل السنوي عند 185%، بحسب أسوشييتد برس، بينما يدافع الرئيس رجب طيب أردوغان عن سياساته غير التقليدية في مواجهة أزمة تكاليف المعيشة.
وبينما ترفع المصارف المركزية في أنحاء العالم معدلات الفائدة، كما حصل أمس واليوم في الولايات المتحدة والخليج وبعض الدول الأخرى، في مسعى للسيطرة على ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، عارضت تركيا الاتجاه العالمي وشدد أردوغان على أن معدلات الفائدة المرتفعة هي "أكبر عدو" له.
والشهر الماضي، خفّض البنك المركزي التركي معدل الفائدة للمرة الثالثة على التوالي ليسجّل 10.5% مقارنة بـ12%، بحسب "فرانس برس".
ومع اقتراب موعد الانتخابات المقررة العام المقبل، يصر أردوغان على أن معدلات الفائدة المرتفعة تؤدي إلى التضخم لا العكس، في تحد للنظريات الاقتصادية التقليدية.
وأمس الأربعاء، أشاد أردوغان بوضع الاقتصاد في خطاب ألقاه أمام نواب حزبه العدالة والتنمية في البرلمان. وقال: "الحمد لله، فإن عجلة الاقتصاد تدور"، مضيفا أن "نموذجنا الاقتصادي الذي لخّصناه كنمو عبر الاستثمار والتوظيف والإنتاج والتصدير والفائض في الحساب الجاري، يؤتي ثماره".
في المقابل، يشكك العديد من الأتراك في مدى مصداقية البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة. فبحسب دراسة شهرية تحظى باحترام واسع نشرها خبراء اقتصاد مستقلون من معهد ENAG التركي للأبحاث، بلغ المعدل السنوي لارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية 185.34% في أكتوبر/تشرين الأول.
وفي حين أدت الجائحة وغزو روسيا أوكرانيا إلى إذكاء التضخم في جميع أنحاء العالم، يعتقد اقتصاديون أن التضخم في تركيا كان مدفوعا باعتقاد الرئيس رجب طيب أردوغان أن تكاليف الاقتراض المرتفعة تؤدي إلى ارتفاع الأسعار، فيما يقول التفكير الاقتصادي التقليدي أن رفع المعدلات يساعد في كبح جماح التضخم.
وينسب مراقبون استمرار تدحرج التضخم إلى تراجع سعر صرف الليرة التركية بعد تخفيض سعر الفائدة 150 نقطة أساس الشهر الماضي، ليصل إلى 10.5% بعد ثلاث جلسات تخفيض متتالية، إذ كان سعر الفائدة في يوليو/تموز الماضي 14%.
ورغم بدء تحسن مؤشرات الأسواق والاستهلاك، بعد أن ارتفع مؤشر الثقة الاقتصادية في تركيا 3% الشهر الماضي، ليبلغ المؤشر 97.1 بعد تسجيله 94.3 في سبتمبر/أيلول الماضي، فإن المراقبين يتوقعون استمرار زيادة نسبة التضخم، وليس تراجعها كما وعد وزير المالية وتوقع البنك المركزي الشهر الماضي، متوقعين هبوط سعر صرف الليرة مقابل الدولار إلى 20 ليرة نهاية العام، إن لم يتدخل المصرف المركزي وتتخذ الحكومة إجراءات إضافة للإيداع بالليرة المحمية، مشيرين إلى تدخل المركزي اليوم الخميس بشكل مباشر، "ضخ دولار"، ما أدى لتحسن سعر صرف الليرة".
وكان محافظ البنك المركزي شهاب قاوجي أوغلو قد توقع أخيراً أن تتراجع نسبة التضخم من 83.45% إلى ما بين 60.4 و65.2 نهاية العام الجاري، من دون أن يفصح عن الآلية والطرق التي ستصوّب الأسواق وتحد من التضخم وغلاء الأسعار.
ويرى المحلل التركي برهان كور أوغلو أن التضخم بات حالة عالمية نتيجة ارتفاع أسعار النفط والغاز والمواد الأولية، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، ومن الطبيعي أن تتأثر بلاده لأنها تستورد أكثر من 95% من استهلاكها للنفط والغاز من الخارج، الأمر الذي انعكس برأيه على تكاليف الإنتاج وارتفاع الأسعار.
ويضيف كور أوغلو خلال تصريح سابق، لـ"العربي الجديد"، أن حكومة بلاده "تلتزم بالسياسات الاجتماعية والداعمة لتحسين معيشة المواطنين، سواء عبر رفع الحد الأدنى للأجور مرتين هذا العام، والوعود برفع ثالث نهاية العام الجاري، والضغط على الشركات الخاصة لرفع الأجور، أو بالدعم المباشر عبر التدخل بالسوق، عبر الرقابة وصالات بيع السلع والمنتجات أو حتى دفع قيمة الفواتير عن الفقراء كما رأينا الشهر الماضي".
وكان وزير العمل والضمان الاجتماعي التركي، فيدات بيلجين، قد وعد أخيراً بزيادة جديدة على الحد الأدنى للأجور خلال ديسمبر/ كانون الأول المقبل لمواجهة تضخم الأسعار، قائلاً: "في الفترة الماضية، قمنا بزيادة الحد الأدنى للأجور بأعلى معدل في التاريخ خلال يوليو/تموز، وسنفعل ذلك مجدداً في ديسمبر/كانون الأول"، مضيفاً أن الحكومة ستحل مشكلات الموظفين وستجعل العمال سعداء: "سننقذ موظفينا وعمالنا من دمار التضخم، نحن بحاجة للتخفيف عن شعبنا".
وارتفعت نسبة الفقراء بتركيا بعد أن كشفت نقابات العمال "ترك إيش" أخيراً عن ارتفاع تكاليف المعيشة للأسرة التركية خلال أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مبينة خلال تقرير أن حد الجوع لعائلة مكونة من 4 أفراد تعيش في العاصمة أنقرة هو 7425 ليرة.
ويضيف اتحاد العمال التركي أن حد الفقر اللازم لتلبية النفقات الضرورية "سكن، مواصلات، غذاء، تعليم، صحة" وصل الشهر الجاري إلى 24185 ليرة، ما يقترب من 5 أضعاف الحد الأدنى للرواتب والأجور الذي لا يزيد بعد الرفع مرتين، هذا العام، عن 5500 ليرة تركية.
وارتفع الحد الأدنى للرواتب والأجور بتركيا من 2925 ليرة مطلع العام الجاري بنسبة 50% ليصل 4250 ليرة، قبل أن تأتي الزيادة الثانية في يوليو/تموز بنسبة 30% ليصل 5500 ليرة، مع وعود حكومية برفع ثالث نهاية العام الجاري أو مطلع العام المقبل ليصل بحسب مراقبين إلى 8500 ليرة.