تركيا تبيع الدولار... لا بد مما ليس منه بد

01 ديسمبر 2021
بدأت منذ اليوم الخميس حرب كسر العظم بين الحكومة والمضاربين على الليرة (فرانس برس)
+ الخط -

جنح البنك المركزي التركي أخيراً، بعد تردد وعناد، إلى المنطق الاقتصادي الأبسط الذي يقول إن "زيادة العرض ستودي بالسعر". فبقاؤه يعالج تهاوي سعر الليرة التي فقدت نحو 45% من قيمتها هذا العام، بالوعيد والآمال، ومواجهة المضاربة العلنية بتخفيض سعر الفائدة، أفقر الأتراك الذين تأكّل دخلهم وعزز من دولرة السوق، بعد امتناع أصحاب مصالح عدة عن التسعير بالعملة المحلية جراء التذبذب والتراجع المستمرّين.

فمنذ اليوم الخميس، شمّر "المركزي" عن ساعديه، ليقول لشركائه في المصرف (لأنه شركة مساهمة يمتلك أكثر من 45% من أسهمها مصارف وشخصيات اعتبارية، منها خارجية) ولمن يهمهم الأمر، إن أحزاباً معارضة تسعى لدخول المعركة الانتخابية على صهوة الليرة المتهاوية، أو إن دولاً يؤرّقها تسارع النمو التركي واقتراب تركيا من حلم 2023 بدخول نادي العشرة الكبار.

"أنا هنا"، ويبدأ ببيع الدولار بالسوق بالسعر الحقيقي، حتى وإن جازف بأهم أسلحته التي يخبئها لليوم الأسود، أي الاحتياطي الدولاري الذي يزيد على 125 مليار دولار.

أي، بلغة السوق، بدأت منذ اليوم، حرب كسر العظم بين الحكومة التركية وفي مقدمتها الرئيس رجب طيب أردوغان الذي لا يُخفي حربه على الفائدة المرتفعة، والمضاربين في الداخل والخارج وأنصار الفائدة المرتفعة الذين وجدوا في الفائدة التركية التي وصل سعرها إلى 22% العام الماضي، قبل أن تتراجع إلى 15% اليوم، ملاذاً آمناً وربحاً مضموناً لإيداعاتهم.

بيد أن هذه الحرب تبتعد عن مفهوم عضّ الأصابع ومن يصبر للنهاية، لأن حجم الاحتياطي محدود، وجزء منه محرّم، ولأن شراسة "نكون أو لا نكون" هذه المرة، تختلف عن تدخلات البنك المركزي المباشرة السابقة، سواء عام 2014 وقت ضخ كميات دولارية محدودة، أو حتى عام 2018 وقت تصاعدت المواجهة بين أنقرة وواشنطن، فهوت الليرة نحو 14% في ليلة واحدة، واقترب الدولار يومذاك لأول مرة من 6 ليرات.

كذلك إن دائرة المواجهة هذه المرة مشفوعة بالتخفيض المستمر لأسعار الفائدة، في حين أن مخاوف الأسواق أكبر، جغرافية ولاعبين، مما سبق، بما يزيد من احتمالات طول المواجهة وما تحمله من مخاطر على الاحتياطي الدولاري وعلى الإنتاج ومعيشة الأتراك في آن واحد.

هذا إن لم نأتِ على الآثار، إن طالت المواجهة، حتى على النمو الاقتصادي الذي قد تشكل نسبته المرتفعة (7.4% في الربع الثالث من العام الجاري) عاملاً إضافياً لاستهداف تركيا وتعاظم المخاوف من نمر اقتصادي جديد، لأن استمرار تهاوي سعر الصرف، الذي قد ينعكس إيجاباً على تكاليف الإنتاج ويزيد بالتالي من تدفق الصادرات، سيؤثر تراكمياً في الإنتاج المحلي سلباً، وقد يدفع الاقتصاد الكلي نحو التباطؤ.

خلاصة القول: تصدّر الحديث عن الليرة التركية، منذ أشهر، وسائل الإعلام والمنابر الاقتصادية الدولية، وكان لكثرة التداول، أثره النفسي الكبير في المخاوف وانسحاب الأموال والمستثمرين وتراجع السعر، رغم أن أبسط حقوق تركيا، التي تتطلع إلى اقتصاد قوي، أن تخفّض سعر الفائدة وتوجه المدخرات والإيداعات، من خزائن المصارف، إلى قطاعات إنتاج حقيقية.

إذ لا يستوي سعر الفائدة المرتفع مع أحلام أي دولة تتطلع إلى الصدارة، ولا يمكن أن تبقى تركيا سوق أرباح مصرفية لأصحاب الإيداعات الذين لا يزيد سعر الفائدة ببلادهم على 1%، طبعاً إن لم نتطرق إلى أن تركيا كحكومة، من أكبر المقترضين من المصارف لتمويل مشروعات المئوية التي تتطلع إلى تدشينها عام 2023.

لكن الحصول على هذا الحق، على وجاهته، لا يأتي عبر الذي رأيناه، من إعلان اتفاقات وأرقام استثمارات مباشرة، أو التشدد والتحقيق في تصريف العملة أو تقييد القروض فقط، أو حتى، وهنا الطامة، بتتالي تخفيض سعر الفائدة أو التدخل المباشر بقرارات المصرف المركزي، الذي وصل إلى تبديل 3 محافظين خلال عام، فضلاً عن التصريحات المستمرة بالنقد، التي لها ما لها من آثار، يبني عليها المتربصون والمضاربون، ويدفع ثمنها الاقتصاد والمستهلكون.

ولعل الأهم بين الملاحظات على طرق المعالجة هو التردد بالتدخل ومحاولات مخالفة علم الاقتصاد. فلو باع البنك المركزي الدولار في اليوم نفسه لتخفيض سعر الفائدة 100 نقطة الشهر الماضي، لتنبه المضاربون ربما إلى سلاح الاحتياطي وجدية الدولة في الدفاع عن عملتها، واطمأن صغار المدخرين والمستهلكين إلى أنهم يسندون ظهرهم إلى جدار صلب.

نهاية القول: الأرجح أن تركيا، قبل بلوغ حلم عام 2023، ستمرّ بمواجهات كثيرة، فأن تعمم تجربة حزب "العدالة والتنمية" سياسياً واقتصادياً، هذا ما لا يرضى عنه "ديموقراطيو الشمال"، ولا بد من الضرب على الخاصرة الأضعف، قبل أن يشتد عود الاقتصاد التركي ويبدأ بتقليل فاتورة الطاقة (45 مليار دولار) وينتج الغاز ويعادل محلياً من استهلاك النفط المستورد، فكانت الليرة التي قدّم مسؤولو تركيا الذريعة إلى المضاربين والمتربصين، عبر كثرة التدخل والتصريحات والتردد باستخدام الأسلحة المعروفة والمتفق عليها في علم الاقتصاد.

المساهمون