ترامب "المجروح" وتدمير الاقتصاد التركي

14 يناير 2019
+ الخط -


في شهر أغسطس/آب الماضي فتح الرئيس الأميركي دونالد ترامب حسابه على تويتر وكتب هذه التغريدة المثيرة والمخالفة لكل الأعراف الدبلوماسية "أصدرت للتو أمراً بمضاعفة رسوم الصلب والألمنيوم فيما يتعلق بتركيا، في الوقت الذي تتراجع فيه عملتهم، الليرة التركية، تراجعا سريعا أمام دولارنا القوي جدا، رسوم الألمنيوم ستصبح 20%، والصلب 50%، علاقاتنا مع تركيا ليست جيدة حالياً".

ساعتها انقلبت الدنيا رأساً على عقب، فقد انهارت الليرة التركية وفقدت 19% من قيمتها مقابل الدولار في يوم واحد هو 10 أغسطس 2018 عقب إعلان ترامب مضاعفة الرسوم الجمركية على الصلب والألمنيوم المستوردين من تركيا، وواصلت الليرة انهيارها لتفقد 30% من قيمتها خلال أيام معدودة من تغريدة ترامب، وتجاوز سعر العملة الأميركية 7.3 ليرات وذلك لأول مرة منذ سنوات طويلة.

واهتزت الأسواق التركية حيث شهدت سحوبات مكثفة لأموال أجنبية ساخنة مستثمرة في البورصة وأدوات الدين الحكومية، وتوقف تدفق الاستثمارات المباشرة من الخارج، وأصاب الشلل قطاعات اقتصادية منها العقارات، وزاد معدل التضخم لمستويات قياسية، واندفع البنك المركزي التركي نحو زيادة سعر الفائدة لاحتواء اضطرابات أسواق الصرف والتضخم المرتفع، وخفضت وكالات التصنيف العالمية تصنيف تركيا وهو ما أزعج المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء.

كما شهد الاقتصاد التركي حالة من الارتباك الشديد خاصة مع فرض الولايات المتحدة عقوبات على وزيري العدل والداخلية التركيين، وزاد قلق الأتراك على مدخراتهم المحلية خاصة مع الحديث الرسمي عن حرب اقتصادية شاملة يقودها ترامب ضد بلادهم، وحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأتراك على مواجهة ما سماها بحرب اقتصادية على أنقرة، ومناشدته المواطنين تحويل الدولار والذهب إلى الليرة لدعم العملة المتراجعة.

وامتدت تأثيرات تغريدة ترامب للأسواق الخارجية خاصة الأوروبية وفي مقدمتها الألمانية خاصة مع وجود علاقة قوية بين الاقتصادين التركي والأوروبي، وطاولت شظاياها الاستثمارات التركية الضخمة في ألمانيا، كما امتدت التأثيرات أيضا إلى العملة الأوروبية الموحدة اليورو التي تراجعت مقابل الدولار.
وأمس 14 يناير/كانون الثاني 2019 خرج علينا دونالد ترامب بتحذير قوي قال فيه إن الولايات المتحدة ستدمر تركيا اقتصاديا إذا هاجمت أنقرة مقاتلين أكرادا في سورية تدعمهم واشنطن، وذلك ردا على الحملة العسكرية التي يجهز لها الجيش التركي حاليا في شمال سورية.

عقب تحذير ترامب الصادر أمس لم تهتز الأسواق التركية كما جرى في أغسطس 2018، ولم تشهد العملة التركية انهيارا كبيرا، بل تراجعت الليرة بشكل طفيف لتصل قيمتها إلى 5.53 للدولار مقابل 5.4540 يوم الجمعة الماضية.

وعلى مستوى الأسواق والبورصات فقد انخفضت الأسهم الأوروبية أمس بنسبة 0.6% فقط ليس بسبب تحذير ترامب لتركيا بل بسبب بيانات ضعيفة عن التجارة الصينية، وقلق المستثمرين بشأن تباطؤ النمو العالمي والأرباح الأضعف من التوقعات.

أما اليورو فقد تراجع سعره بشكل طفيف ليس بسبب تحذير ترامب بل بسبب بيانات اقتصادية أظهرت انخفاض الإنتاج الصناعي بأكثر من المتوقع لمنطقة اليورو المكونة من 19 دولة، الأمر الذي يثير مخاوف الأسواق حول معدلات النمو بالمنطقة في الربع الأخير من العام الماضي.

وهبط الدولاران الأسترالي والنيوزيلندي، اللذان يقيسان مستوى الإقبال العالمي على المخاطرة، أمس بفعل المخاوف من تباطؤ اقتصاد الصين في ظل انكماش صادراتها وليس بسبب تحذيرات ترامب.
ببساطة، لم تتجاوب الأسواق العالمية مع تحذير ترامب الجديدة بتدمير الاقتصاد التركي، ولم تشهد بورصات الدول التي لها علاقات اقتصادية وتجارية مع تركيا اضطرابات وتراجعات حادة كما حدث في الصيف الماضي، والتحذير لم يكن له تأثير ملموس على الاقتصاد التركي حتى الآن، على عكس تغريدة أغسطس التي هزت الأسواق وأربكت الاقتصاد التركي والمتعاملين معه.

ترامب اليوم ليس هو ترامب أغسطس، فترامب الصيف الماضي كان يبدو قويا حيث كان يتاجر بقضية القس الأميركي أندرو برونسون الذي كان محتجزا في تركيا لمدة عامين بتهمة التعاون مع فتح الله غولن وحزب العمال الكردستاني، وترامب كان يخوض وقتها نزاعات عدة مع تركيا حول احتجاز ثلاثة موظفين في السفارة الأميركية بأنقرة وقضايا تجارية وخلافات بشأن سورية.

وترامب نجح في خفض أسعار النفط بمعدلات قياسية ليصل سعره إلى حاجز الخمسين دولارا مقابل 86 دولارا في بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ومارس ضغوطاً شديدة على السعودية لزيادة إنتاجها النفطي لما يزيد عن 11 مليون برميل يوميا، واتهم منظمة أوبك بالاحتكار والتهديد بمقاضاتها ومقاضاة أعضائها، وترامب فرض حظرا نفطيا واقتصاديا على إيران بعد انسحابه من اتفاقية البرنامج النووي.

وداخليا حقق ترامب في صيف 2018 إنجازات اقتصادية على الأرض من أبرزها الدولار القوي في مواجهة تراجعات في أسعار صرف باقي العملات بما فيها اليوان الصيني والجنيه الإسترليني وعملات الأسواق الناشئة.

وأدت سياساته إلى حدوث ارتفاعات قياسية في أسواق المال في "وول ستريت"، وتراجع في معدل البطالة وزيادة الصادرات والاستثمارات الأجنبية المباشرة سواء القادمة من دول الخليج أو من الأسواق الناشئة، كما كان يقود حربا تجارية شرسة ضد شركائه التجاريين خاصة الصين والاتحاد الاوروبي وكندا والمكسيك، وكانت له اليد الطولى في هذه الحرب التي حققت مكاسب اقتصادية لقطاع الصناعة الأميركي، وسياسيا كان حزب ترامب الجمهوري يسيطر على مجلس النواب، وهو ما كان يعطيه دعما قويا خاصة في التشريعات والسياسات الاقتصادية.
أما ترامب يناير/كانون الثاني 2019 فهو مجروح، مهان، تلاحقه تهم التجسس والعمالة لصالح موسكو، ينفض رجاله من حوله، فقد أقال في فترة لا تتجاوز العامين من حكمه وزراء كثرا منهم وزراء الخارجية والعدل والدفاع والداخلية والصحة والخدمات الإنسانية وغيرهم، كما أقال مدير المباحث الفيدرالية والنائب العام وثلاثة مستشارين للأمن القومي وكبير موظفي البيت الأبيض وسفيرة واشنطن لدى الأمم المتحدة.

وترامب حاليا تطارده تحقيقات المحقق الخاص روبرت مولر، ويخضع لضغوط شديدة من المشرعين بالكونغرس بسبب موقفه المهين في قضية اغتيال جمال خاشقجي ومساندة ولي العهد السعودي، كما صفع الديمقراطيون ترامب نهاية العام 2018 عندما انتزعوا السيطرة على مجلس النواب من الجمهوريين خلال انتخابات التجديد النصفي للكونغرس.

والعالم كان يتابع تصريحات ترامب في منتصف شهر نوفمبر الماضي حينما راح يصف أردوغان بأنه صديق ورجل قوي وذكي، وأن لديه علاقة قوية جداً جداً معه.

ترامب طبعة أغسطس 2018 ليس هو ترامب طبعة يناير 2019، وفي المقابل فإن تركيا اليوم ليست تركيا صيف العام الماضي، فقد جرت خلال الأشهر مياه كثيرة لصالح أنقرة في مقدمتها نجاح الحكومة التركية في إعادة الاستقرار لسوق الصرف وقطاعات الاقتصاد، وزيادة إيرادات البلاد من النقد الأجنبي، وجذب استثمارات ضخمة.
المساهمون